اسمي ريم ، أعيش في أم درمان منطقة العرضة، تخرجت من جامعة الأحفاد.
كباقي الشعب السوداني، استيقظت لأجد نفسي وسط واقع الحرب القاسي الذي اجتاح البلاد. بدأت الحرب في الخامس عشر من أبريل عام 2023 بين القوات المسلحة السودانية ومليشيات الدعم السريع. بدأت الاشتباكات في ذلك اليوم في كافة أنحاء العاصمة الخرطوم، ثم امتدت في الأيام التالية إلى مدن وولايات أخرى
سأحاول سرد التجارب التي عشناها وما زلنا في ظل هذه الحرب.
استيقظنا على واقع جديد لم نختبره من قبل، بدأت تتعالى أصوات الرصاص والانفجارات ودوي القذائف، فجأة انتشرت ميليشيات الدعم السريع في المنطقة التي نسكنها، في الشوارع الرئيسية وداخل الحي. في البداية، كانت الاشتباكات تدور حول مبنى الإذاعة وسلاح المهندسين، وبسبب قربنا النسبي من تلك المناطق، تعرض حيّنا لوابل من الرصاص الطائش.
استمر هذا الوضع لمدة شهر ونصف انقطعت خلالها المياه عن الحي، وأصبح من الصعب علينا الحصول عليها حيث اضطررنا للذهاب لجلب المياه من مسافة سبعة عشر شارعاً من منزلنا، مع العلم أننا نحن أختان فقط في البيت، وأمي وأبي كبيران في السن. فجأة، تغير الوضع في المنطقة بشكل سريع ومرعب وبدأت ميليشيات الدعم السريع بعمليات نهب للممتلكات واقتحام البيوت و غتصاب الفتيات وانتهاك حرمتها.
في إحدى الليالي هددوا صاحب البقالة القريبة صراحة: "نريد البيوت التي فيها بنات وسيارات" وفي تلك الليلة عاش الحي بأكمله في رعب حيث خرج الرجال من شباب وشيوخ، إلى الشوارع لحماية الشرف والممتلكات. وفي الليلة التالية عند الساعة 12:30 ، اقتحموا منزلنا ونهبوا السيارات من فناء المنزل، وحاولوا الدخول إلينا لكنهم لم يتمكنوا . تعرض شباب الحي للضرب والتعنيف، وفي اليوم التالي قررنا أن نغادر البيت ونذهب للعيش مع أختي المتزوجة في منزلها، ليكون هناك رجل يحمينا إذا حاولوا اقتحام البيت مرة أخرى.
حانت لحظة مغادرة المنزل، وكانت من أصعب وأقسى اللحظات التي عشناها طوال فترة الحرب. كأنما الروح تُنتزع منا مع كل خطوة نبتعد بها عن ديارنا، شعور لا يمكن وصفه بالكلمات.
. خرجنا إلى الشارع، وكان مليئاً بجنود ميليشيات الدعم السريع، كأنهم قطاع طرق رأيناهم ينهبون الأسواق والمحلات والبنوك وكانت الشوارع مرعبة، يملؤها دوي الرصاص. عند مرورنا بإحدى نقاط التفتيش، أوقفنا جنود الدعم السريع وفتشوا السيارة وطالبوا بإثباتات الهوية، وأطلقوا ألفاظاً بذيئة، واعتدوا على السائق وهددوه بالقتل. كان التوقيف إذلالاً استمر حوالي ثلاث ساعات، وفي النهاية سمحوا لنا بالمغادرة. وما إن تحركت السيارة، حتى سمعنا طلقات الرصاص التي كانت تستهدفنا مباشرة، وكان ذلك أكبر صدمة لنا، ما الذي فعلناه لنستحق هذا ؟! الحمد لله لم يصب والدتي ووالدي والسائق بالرصاص، لكن للأسف أصيبت أختي في ذراعها وأصبت أنا في جانبي الأيسر. وصلنا إلى منزل أختي ودخلنا، وبدأت الاشتباكات في المنطقة واستمرت لأكثر من ست ساعات متواصلة لم نستطع خلالها الوصول إلى المستشفى لتلقي العلاج.
بعد ذلك، حلّ الليل ولم يكن أحد يستطيع الخروج إلى الشارع. بقينا أنا وأختي في المنزل نعالج بعضنا بالإسعافات الأولية التي تعلمناها حتى الفجر، وبعدها توجهنا إلى المستشفى حيث تلقينا العناية اللازمة.
وصلنا لمنزل أختي في بداية منطقة كرري (خط النار) في حي الثورة الحارة الخامسة، وهي منطقة كانت تشهد اشتباكات يومية في تلك الفترة بالقرب من مقر الاحتياطي المركزي، حيث وجدنا أنفسنا في وسط الاشتباكات والقذائف العشوائية التي تسقط حولنا بأعداد كبيرة. شهدت المنطقة بعد ذلك نزوحاً كبيراً للسكان بسبب انعدام الأمان، حيث خلت معظم المنازل من سكانها، كما أغلقت جميع المحلات التجارية. كانت الكهرباء تنقطع لفترات طويلة، مما جعل الوضع أصعب، حيث كنا مجبرين على البقاء في هذا المكان لعدم توفر مكان آخر للذهاب إليه، إضافة إلى عدم تمكن والدي من السفر أو التحرك، مما فرض علينا البقاء في هذا الواقع.
تحولت المنطقة إلى ساحة اشتباكات بين القوات المسلحة السودانية ومليشيات الدعم السريع، مما جعلها شبه خالية من السكان. القليلون الذين بقوا واجهوا معاناة شديدة في تأمين المواد الغذائية، الخبز، المياه، ومقومات الحياة الأساسية.
في أحد الأيام، بعد صلاة الجمعة، تم الإعلان عن وفاة سيدة كانت تقطن في الحي، حيث طلب من النساء تجهيزها للدفن، نسبة لكبر سن زوجها وعدم وجود أبناء أو بنات لهما. بعد تكفين السيدة ودفنها، وصل إلى علمنا أنها توفيت بسبب الجوع وانعدام الرعاية الطبية.
هذا الموقف تحديدًا كان الدافع وراء إطلاق مبادرة لجمع الطعام وتوزيعه على الأسر في الحي. كانت الوجبة اليومية عبارة كبسة، وشكلت هذه المبادرة بداية جهد إنساني لإطعام المتضررين من الحرب في منطقة الثورة الحارة الخامسة. توليتُ مسؤولية هذه المبادرة بالتعاون مع أختي وزوجها، واتخذنا من منزلنا مقرًا لها. كانت البداية في غاية الصعوبة وسط ظروف قاسية للغاية،نظراً لانعدام شبكات التواصل، وبعد الأسواق عن المنطقة، واستمرار الاشتباكات العنيفة، وانعدام المال، ما جعل توفير وجبة اليوم أكبر تحدٍ نواجهه.
في أحد الأيام قامت ميليشيات الدعم السريع بإخلاء منطقة أم درمان القديمة، وتهجير الأهالي من منازلهم وتعذيبهم. تدفق المتضررون إلى منطقة كرري في مجموعات كبيرة، حيث قام سكان المنطقة بفتح المنازل والمدارس لإيواء الأهالي النازحين. من المنطقة وزاد العبء على المبادرة الصغيرة التي أصبحت تعمل على توفير الطعام ومياه الشرب لكل من تهجروا من منازلهم تحت تهديد السلاح. وبعد ذلك، تم افتتاح مركز إيواء في الحارة الخامسة،في الجزء الجنوبي الغربي وتكفلت مبادرتنا بإطعام الأهالي وتقديم الشراب والعلاج، إلى جانب استمرار الوجبة اليومية لسكان الحي. وتمكنت المبادرة من مساعدة عدد أكبر من الأسر والأهالي، رغم استمرار الاشتباكات في مقر الاحتياطي المركزي، واستمرار تساقط القذائف العشوائية على المنطقة.
في يوم 17 نوفمبر من العام 2023، تعرضت المنطقة لقصف عشوائي في تمام الساعة السادسة و النصف صباحاً و أسفر عن عدد كبير من الجرحى والوفيات، حيث سقطت بعض القذائف على منزلنا، ومركز الإيواء، والمسجد، والساحات. كانت من كل الاتجاهات و أكثرها كان من الجانب الشرقي (من مدينة بحري) كان ذلك أحد أسوأ الأيام التي مررنا بها، حيث كانت أصوات البكاء تُسمَع في كل مكان. ومن هنا، زاد الضغط على المبادرة توفير مستلزمات الإسعافات الأولية والأدوية.
استمر تدهور الوضع لفترة طويلة مع تزايد عدد الأسر النازحة إلى المنطقة نتيجة التهجير المستمر من قِبل ميليشيات الدعم السريع للأهالي من كافة أنحاء أم درمان القديمة، وأصبح العبء أكبر على المبادرة، حتى أن الوجبة لم تكن تكفي لنصف عدد الأسر. ومع تزايد العمل والمسؤولية تجاه الأهالي المهجرين، وبدعم من المساهمين، تمكنا من زيادة عدد الوجبات لتكفي حوالي 120 أسرة يومياً، ومن إنجازاتنا أيضاً تمكنا من توفير أدوية الأمراض المزمنة لجميع المحتاجين في المنطقة، بمعدل 140 إلى 160 شخصاً شهرياً، وتوزيع حقائب غذائية لحوالي 120 إلى 150 أسرة شهرياً.
في خلال هذه الفترة، تعرضت المنطقة لقصف عشوائي متكرر بمعدل أكثر من 15 قذيفة في اليوم الواحد، واستمر انقطاع شبكات التواصل الاجتماعي لأكثر من 45 يوماً. ومع اقتراب رمضان، كانت المبالغ التي تم جمعها على وشك النفاد، ولم نتمكن من توفير الأدوية والحقائب لشهرين متواصلين. كان من الصعب الوصول إلى شبكة "ستار لينك" لدعم المبادرة، وبعد 46 يوماً استطعنا الوصول إلى شبكة "ستار لينك" لجمع التبرعات والاطمئنان على الأهل، واستقبال الأخبار الفاجعة بوفاة الأقارب. ومع ذلك، تمكنا من جمع مبلغ لتوفير الحقيبة الرمضانية وتوزيعها على المتضررين من الحرب، وكان هذا من أكبر إنجازات المبادرة. رغم كل هذه الظروف، لم أتوقف عن تحقيق أهدافي، فأديت القسم الطبي، واستلمت شهادة مزاولة المهنة كطبيبة، باشرت العمل في مستشفى النو التعليمي.
بعد استقرار شبكات التواصل في المنطقة، وتوسع سيطرة القوات المسلحة في المنطقة، أصبح من السهل الحصول على المواد الغذائية، والخبز والمياه، ولكن كان من الصعب على الأهالي تحمل الأسعار المرتفعة، مما زاد العبء على المبادرة. ومع استمرار نزوح الأهالي من مناطق متعددة إلى كرري، بسبب انتشار ميليشيات الدعم السريع في عدة مناطق، أصبحت المبادرة تحت ضغط شديد ومستمر، حيث استمر عدد النازحين في التزايد يومياً. توسعت المبادرة في المنطقة، وبدأنا نتكفل بتوفير الحقائب الغذائية لحوالي 300 إلى 450 أسرة شهرياً، وبدعم الأدوية للأمراض المزمنة لنحو 540 شخصاً شهرياً، إلى جانب توفير الوجبات اليومية من أربعة مطابخ رئيسية تشمل وجبة الفطور، وعدد مركزين للإيواء.
لا يزال الضغط مرتفعًا مع استمرار تزايد الأعداد وتفاقم الوضع نتيجة حصار الجزيرة. في ظل ذلك، أصبحت كرري وأم درمان الأكثر أمانًا والملاذ الوحيد المتاح.
نسأل الله أن يعم الأمن والسلام والاطمئنان على الجميع، وأن يحفظ بلادنا من كل شر
لا توجد تعليقات