إن الحكم بالإعدام على شخص بمجرد أنه يرتدي "الكدمول" ولمن لا يعرف الكدمول (هي عمامة تلبس في الرأس بشكل محدد مرتبط بثقافة سكان غرب إفريقيا وغرب السودان)؛ أو التمثيل بجثة شخص بسبب الاعتقاد بإنه ينتمي للقوات المسلحة أو بسبب انتمائه إلى ثقافة محددة كحادثة والي ولاية غرب دارفور (خميس أبكر)، يؤكد أن ما يحدث في السودان الان تجاوز أكثر من كونه خطاب كراهية لفعل ليقف العالم مذهول منه.
قد أعلنت محكمة القضارف الحكم بالإعدام على شخص يدعى (إ، ع،إ) لوجود صورة له في صفحته على الفيسبوك يعود نشرها لـ 2017م. وحسب محامي المحكوم فإنه لا وجود لأي دليل لانتمائه للدعم السريع غير تلك الصورة وهناك عدد من الاعتقالات وتصفيات تتم على أساس العرق والانتماء السياسي1.وقد راج في الآونة الاخيرة عملية التمثيل بالجثث قد نشرت عدد من الفيديوهات لأشخاص يلبسون زي عسكريين يقومون بالتمثيل على الجثث وقد أشار محامو الطوارئ لذلك في عدة بيانات مما يؤكد أن الاوضاع في السودان تجاوزت خطاب الكراهية إلى الافعال الشنيعة التي تفقد الانسان إنسانيته2.
يصبح السؤال هل كل من يلبس الكدمول أو من وسط السودان وشماله أومن القبائل العربية في دارفور أو الافريقية هو طرف في الحرب؟ أم أن الحرب هي بين قوات الدعم السريع والجيش والحركات المسلحة التي اعلنت دعمها للجيش مؤخراً؟
للإجابة على هذا السؤال يمكننا أن نرجع للتاريخ قليلًا حيث الثورة السودانية في 2019 التي عرفت أدبياً بـ"ثورة ديسمبر" حيث توحد السودانيين والسودانيات في كل السودان وصفيين نظام الجبهة الإسلامية بالعنصري التي أضاع الجَنُوب من أجمل تلك الهتافات التي ما زالت تتردد في خاطري كلّما رأيت خطاب عنصري يحاول عكس تخندق أبناء منطقة مع أحد طرفي الحرب هو" يا عنصري مغرور كل بلد دارفور يا عنصري وخوان وين الجَنُوب وين راح" مما يؤكد إن أبناء الشمال الوَسَط والشرق وغرب راغبين في تحول مدني ديمقراطي وأن الطامعين في السلطة هم من يستغلون الشعب بخطاب الكراهيَة كوقود للحرب، وكذلك الأحداث التالية من أتفاق جوبا لسلام السودان الذي وقع عليه عدد كبير من الحركات المسلحة في دارفور. وقد رفض النازحين في المعسكرات ذلك الاتفاق ورفعوا لافتات تعبر عن رفضهم وقد أوضح المتحدث بإسم المنسقية آدم رجال على أن رفض النازحين مواطنين دارفور للاتفاق كان بسبب أن الاتفاق لم يقم على تلبية مطالب مواطنين ونازحين إقليم دارفور3، ولم يتم فيه مشاركة أصحاب المصلحة مما يؤكد أن تلك الحركات لا تعبر عن أهلنا في دارفور جميعهم. وأيضاً هتافات الشعب السوداني المطالب بحل الدعم السريع وعودة الجيش للثكنات بعد انقلابهم على حكومة عبد الله حمدوك الانتقالية كل ذلك يؤكد إن لا ثقافة تحارب ولا إثنية تقاتل، إنما الراغبين في السلطة يستغلون أبناء الشعب السوداني كما ذكرت آنفاً.
كل تلك الأحداث تؤكد أن الحرب الدائرة في السودان منذ 15 إبريل 2023م هي نتيجة لخطاب كراهية أنتجتها سياسات الحكومات التي يطلق عليها جذافاً "الحكومات الوطنية "إذا كانت عسكرية أو مدنية.
فلاش بلاك
في 1955م حينما ظهرت "الانانا" لم تستطع حكومة الاستقلال التعامل معها لتبدأ الحرب الاهلية في السودان وبفضل الخطابات التي سعت في تلك الفترة لتعريب السودان وجعله عربياً خالصاً، استمرت الحرب وتم تصويرها على أنها حرب بين "دار الكفر" و "دار الاسلام". واستمرار الخطاب تجلى في تشكيل حكومة الانقاذ بقيادة الحركة الاسلامية التي أرادت العودة إلى سنار حيث الدولة الاسلامية الاولى ويجب التأكيد على أن الإنقاذ لا يمكن وصفها بما قاله الطيب صالح في مقاله الشهير من "أين جاؤوا هؤلاء ". الحقيقة المرة أنهم أبناء الشعب السوداني المختلف في شرقه وغربه وجنوبه وشماله وسطه الذي لم تفلح النخب السودانية في إدارة اختلافه. والحقيقة التي تثبتها صيرورة التاريخ أن أي اختلاف لم يتم إدارته والاستفادة منه يتحول إلى نغمة تدمر الشعوب المختلفة.
جاءت الحركة الاسلامية تحمل في طيتها "المشروع الحضاري" الذي جعل الحرب ضد الحركة الشعبية فريضة وجهاد لنصرة الله مغزية فكرته بالإعلام الذي سيطرة عليه وكان ذلك عن طريق الطيب مصطفى وغيره من الاسلاميين الاعلاميين والذين بذلوا كل طاقتهم لنشر خطاب الكراهية حتى توج ذلك بذبح" الثور الأسود"، وتوزيع الحلوى تعبيراً من الطيب مصطفى بسعادته لانفصال جنوب السودان في عام 2011 م ويخرج عمر البشير الرئيس المخلوع في ذلك العام ليقول خطاباً جماهيري في مدنية القضارف يحمل أسوأ ما يمكن سماعه وعرف الخطاب لدى الأوساط الصحفية بـ"خطبة الخرمجة" حيث قال البشير " بعد إنفصال الجنوب ما عايزين إضان زرقة " متناسياً التعدد الثقافي الذي يحمله السودان؛ وإشتعال الحرب في دارفور والحركة الشعبية شمال في جبال النوبة والنيل الازرق التي شكلت معه للتو الحكومة، ووقعت معه اتفاقية نفاشا كجزء من الحركة الشعبية الأم نتيجة لذلك خرجت الحركة الشعبية في النيل الأزرق وجبال النوبة تعلن عن الحرب ومطالبها لتتسع دائرة الحرب وتستمر حتى سقوط البشير بالثورة الشعبية.
وقد سعت الحكومة المدنية الانتقالية في تحقيق السلام ووقف الحرب عن طريق "سلام جوبا" في تلك المناطق المشتعلة في كل من دارفور وجنوب كردفان، ولكن يجب التأكيد على أن الأطراف لم تكن تريد السلام؛ إذ كانت الحكومة الانتقالية التي سيطر عليها المكون العسكري وضعف المدنيين فيها أو الحركات التي سعت إلى المناصب وساهمت في الانقلاب على حكومة عبد الله حمدوك، أو حركتي عبد العزيز وعبد الواحد التين ظلتا يتشرطان على الحكومة بدلاً من الدخول في الحكومة وتقوية الجناح المدني لصالح التحول المدني الديمقراطي. يمكن أن نشير إلى أن خطاب الكراهية في السودان ليس ذو طابعاً سياسياً فقط وإنما متجذر مجتمعياً، واقتصادياً في طريقة تقسيم العمل ومن يعمل الاعمال البدنية "الشاقة"، ومن يعمل الذهنية ويسيطر على السوق ومؤسسات الدولة، والحقيقة المرة أن ذلك ليس فقط بين المختلفين إثنياً وثقافياً وإنما داخل الثقافة والاثنية الواحدة فيما يعرف بـ "خشم البيت ". تجد خطاب الكراهية واضحاً فيما عرف في السودان بـ "الحتاحيت " اي المنبتين عرقياً، ونجد خطاب الكراهية في الاغاني، الزواج، النكات، تصنيفات الافعال، الامثال الشعبية، ومحاولة إدراج النسب وربطه برسول الاسلام "محمد عليه السلام" وغيرها مما يؤكد فرضية أن الإنقاذيين لم يأتوا من مكان سواء السودان .
كل ذلك يؤكد أن خطاب الكراهية متجذر في السودان وأصبح ثقافة بين أبناء الوطن الواحد الذي يحاول كل منه ان يثبت أصله ونسبه وأنه مواطن أكثر من غيرهم، لذلك في كل الحروب والنزاعات في السودان أحدهم يصف طرفاً آخراً بأنه ليس سودانياً. وقد أنتج عن ذلك كما ذكرت آنفاً، أن الحرب بين قوات الدعم السريع والجيش استخدمت الخطاب الذي جعل السودان منطقة نزاع مسلح يدعو المدنيين لمناصرته مخاطباً أي منهم بخطاب عنصري ضد الاخر. إن الحكومات المتعاقبة على السودان فشلت في إدارة التنوع مما اوصل السودان إلى هذه النقطة. والحقيقة أنه لا يمكن أن تتوقف الحرب في السودان ما لم يتم توقيف خطاب الكراهية الذي يبثه طرفي الحرب ولن يتوقف خطاب الكراهية مالم تتوحد القوى الراغبة في وقف الحرب وتحقيق التحول الديمقراطي لتصنع خطاباً يدعو للسلام والتعايش السلمي.
كما أثبت التاريخ أن " نصر بن سيار" ما قاله كان حقاً في أن الحرب أولها كلام في تلك الابيات التي أرسلها ينصح أحد حكام بني أموية حينما قال:
أرى خللَ الرمادِ وميضَ جَمْرٍ** ويوشكُ أن يكونَ له ضرامُ
فإنّ النارَ بالعودين تُذْكى*** وإنّ الحربَ أولها كلامُ
إذا لم يطفها عقلاءُ قومٍ** يكونُ وقودَها جثثٌ وهامُ
وقد رأينا في السودان الجثث ومرارة الحرب والتشتت والتفرق والذل خارج الوطن وكما ذكر سابقاً أن الفشل في إدارة التنوع يتحول الي نغمة كبيرة، ولكن الوحدة هي مفتاح السلام وبناء الدولة ولا يمكن أن نتوحد مالم نصنع مشروعاً وطنياً يؤكد التنوع والتعدد ويتوافق مع الجميع ونعمل سوياً لإنهاء خطاب الكراهية وتجريمه إلى الأبد وكلنا رأينا ما فعلته الوحدة و أن الوحدة تصنع المستحيل، وشاهد على ذلك ما حدث في السادس من أبريل 2019م حينما خرج الشعب وتوحد تحت مظلة "تسقط بس"، إسقاط أعتى دكتاتورية في أفريقيا ولكن الانشقاقات التي حدثت داخل القوى بعد ذلك هزم الثورة وإعادة قوى الردة .
عذراً حتى لا أكون من الذين يحلمون!، وتظل الأحلام مكتوبة فقط حول المشروع الوطني، وقد تحدث الكثيرون فيه. واكون وقعيا إن الذي يعملون لإيقاف الحرب ومحاربة خطاب الكراهية كثيرون، ولكن كل يعمل على حدا وذلك يضعف من نتيجة الجهود وقد يتفقون معي في أن توقف خطاب الكراهية مدخل لإنهاء الحرب، فيجب ان نتوحد حول وقف خطاب الكراهية ومحاربته وخلق خطاب داعي للسلام والتعايش السلمي ونجعل من منصاتنا في مواقع التواصل الاجتماعي والجلسات الاجتماعية تحمل رسالة السلام ووقف كل ما هو عنصري ويدعم استمرار الحرب في السودان.
لا توجد تعليقات