Successful Transaction
Invalid Transaction

خطاب الكراهية.. استثمار اللحظة الخطرة

موسى ادريس عامر | 2024-06-24

السمة الأبرز لخطاب الكراهية هو التمييز. التمييز يبدأ دومًا بالكلمات، يبدأ باللغة. والكلمات إن صيغت بافتراضات مسبقة وقوالب نمطية، ومن دون تدقيقٍ في مصدرها بعناية، وإن غابت عنها العاطفة، تتحول –ببساطة– إلى خطاب الكراهية. كما يؤدي غياب العاطفة عن التواصل بين البشر أيضًا إلى إثارة مشاعر الخوف والعنف والإقصاء والتمييز وعدم المساواة، وتنتج عنها حروب ونزاعات على أسس قبلية وإثنية ودينية وطائفية. والنتيجة المباشرة لاستمرار الصراع على هذه الأسس هي القتل الجماعي والإبادة الجماعية، وسببها الأساسي هو خطاب الكراهية.

تعرّف الأمم المتحدة خطاب الكراهية1 بأنه "الكلام المسيء الذي يستهدف مجموعةً أو فردًا، بناءً على خصائص متأصلة مثل العرق أو الدين أو النوع الاجتماعي".

يوضح لنا هذا التعريف المنسوب إلى الأمم المتحدة –في حال فُسّرت مدلولاته جيدًا– أن خطاب الكراهية يتمظهر في التواصل الشفهي أو الكتابي أو السلوكي، ويُستخدم أساسًا للازدراء والتمييز، بالإشارة إلى شخص أو مجموعة، على أساس الدين أو الانتماء الإثني أو الجنسي أو العرقي أو اللوني أو النسب أو النوع الاجتماعي، وهذه هي العوامل المحددة للهوية. ويهدف خطاب الكراهية غالبًا إلى تهديد السلم الاجتماعي في المجتمع .

في أغلب أدبيات علم النفس، لا سيما دراسات فرويد عن العدوان، يتضح لنا أن أغلب حروب التاريخ وأحداثه المريعة هُندست بدافع العدوان. والعدوان دافع غريزي داخل الإنسان، ويُعرف هذا الدافع بغريزة الموت، على عكس دافع غريزة الحياة الذي يُعرف بغريزة الحب.

يتحرك دافع العدوان عبر مشاعر الخوف الذي ينتج –بدوره– القلق والتوتر النفسي والانفعالي، وتتطور بعدها إلى مشاعر الغضب واليأس والإحباط التي تتمظهر لغويًا في خطاب الكراهية والتحريض وفي السلوك المعادي للآخر المختلف.

وبالنظر إلى تاريخ حروب العالم، منذ الحروب الصليبية، وما تركته من آثار على مستوى الخطاب والواقع، يمكن تفسير هذه السلوكيات العدائية التي تمتد حتى وقتنا الحاضر، بتفسير واقعي لدوافع الخوف والعدوان والقلق والغضب، أي بتحليل الدوافع التي تقف وراء خطاب الكراهية .

وإذا تساءلنا: كيف يمكننا أن نحول غضبنا الفردي والجماعي إلى قوة من أجل الخير العام بدلًا من التدمير والعدوان؟ سنواجه صعوبة كبيرة في إيجاد حلول عملية لتحويل الغضب وخطاب الكراهية المنتشر في عالمنا اليوم إلى قوة بناء وإنتاج.  

ووفق تنظير فرانسيس فوكوياما في دراسته المعنونة "الهوية: مطلب الكرامة وسياسات الاستياء"، فالسياسية العالمية اليوم تدور حول سياسات الهوية ومطلب الاعتراف بكرامة مجاميع تشعر بالاستياء نتيجة تهميشها أو تغييبها أو تهديد وجودها.

والنفس الساكنة في كل فرد –حسب فوكوياما– لديها قيمة مساوية لذوات الآخرين في دافعية الحياة ودافعية الموت؛ هذه القيمة متأصلة في نفس كل شخص، ويُعبّر غالبًا عن هذه النفس بالمشاعر وليس بالعقل، وهذه النفس الداخلية هي أساس كرامتها، وأي مساس بكرامتها هو أصل العدوان في الحياة2.

إن هذه الكرامة المتأصلة في نفس أي شخص تقابلها رغبة داخلية تسمى "رغبة الاعتراف بالتفوق". والمشكلة الأساسية في رغبة التفوق أنها معادية لمطلب الكرامة والمساواة، ففي مقابل كل شخص يُعترف بتفوقه، يجب الحطّ من قدْر أعداد –أكبر بكثير– من الآخرين.

في أدبيات خطاب الكراهية أي كلمة مخبوءة وسط افتراضات مسبقة قد تصبح شديدة الاشتعال والتدمير. وإن عُجنت بعض الكلمات الرنانة وسط قوالب ومشاعر نمطية، وظلّ هذا الغضب النمطي يغلي في نفوس الناس، وتدور في دائرة مفرغة، من دون إيجاد حلول حقيقية؛ لقاد ذلك إلى العنف. ويؤدي العنف إلى مزيدٍ من العنف، ويسبب اليأسَ والإحباط، ويقطّع الجسور الإنسانية للتواصل بين المجتمعات.

هذا العنف اللفظي والمعنوي يتمظهر في خطاب الكراهية الذي يؤثر بدوره في سلامة عقولنا ويسيطر على الفضاء العام، وبسببه يصبح أغلب المنخرطين في الخطاب المدنيّ معزولين ومفككين أكثر فأكثر. هذا الخطاب قائم على رغبة في الاعتراف بالتفوق الاجتماعي، رغبة أصيلة ومحركة لكل مجتمعات ما قبل الديمقراطية، وهي مجتمعات قامت على أساس هرمية اجتماعية، لذا ما يزال الإيمان بالتفوق المتأصل لطبقة معينة من الناس ضروريًا للحفاظ على النظام الاجتماعي القائم؛ وتظهر خطاباته بنبرات متفاوتة في وسائل التواصل الاجتماعي، حسب تشخيص الفيلسوف الألماني هيغل بأن النضال من أجل الاعتراف قاد التاريخ الإنساني برمّته.

ظاهرة خطاب الكراهية ومطلب الكرامة ظاهرة عالمية الآن، تجدها متناثرة في أجندة الحركات القومية الأوروبية المناهضة للهجرة واللاجئين والأقليات، وتجدها في قاموس العنصرية "الترمبوية" البيضاء في أمريكا، وتجدها –أكثر وضوحًا– في خطابات ثورات الكرامة والربيع العربي 2011، وفي ثورة ديسمبر 2018 وحرب 15 أبريل 2023 في السودان.

لتشخيص حالة خطاب الكراهية والمعلومات المضللة لا بد من أن نذكر بعض الأمثلة من الواقع، ونحلل سمات حروب التاريخ البشري، ونستكشف محركها، ونتساءل عن الدوافع الفردية لقادة الخطاب العدواني التحريضي وعن المخاوف الاجتماعية التي تظهر في خطابتهم، ونبحث في المشاعر الذي يركزون عليها.

والمحرك الأساسي لخطاب الكراهية هم قادة نرجسيون استخدموا خطاب الكراهية وساهموا من خلاله في كثيرٍ من ويلات البشرية جمعاء. يقول إريك فروم في كتابه "جوهر الإنسان" إن النرجسي يتعلق بعقيدته مع كُرههُ لكل عقيدة أخرى. وترى الشخصية النرجسية أنها على حق وأن غيرها على باطل. وتؤدي هذه النزعة النرجسية غالبًا إلى "عنف مبرر" إلى درجة لا يمكن للنرجسي فيها أن يرى نتائجه المدمرة والظالمة على غيره.

وإذا تساءلنا مع إيريك فروم في كتابه: "هل طلعت باشا وحده أباد ملايين الأرمن؟ وهل هتلر وحده من أباد ملايين اليهود؟ وهل ستالين وحده من أباد ملايين الأعداء السياسيين؟" سنجد أن الإجابة هي أن أولئك القادة لم يكونوا وحدهم، بل كان لديهم آلاف مارسوا القتل والتعذيب لمصلحتهم، ممن لم يرحبوا فقط بفعل ذلك بل واستمتعوا به3.

وليس بالضرورة أن يكون النرجسي فقط قائدًا عظيمًا في التاريخ، مثل هتلر أو موسوليني أو البشير أو القذافي، بل تقول أغلب التقاليد المعروفة في تشخيص تاريخ الأفكار والأفراد والمجتمعات والمعتقدات إن البشر أغلبهم نمطيون ومنحازون ولديهم قابلية لتنميط الآخر.

مشكلة الذوات الداخلية التي نحتفي بها هي أنها أيضًا قد تكون قاسية أو عنيفة أو نرجسية أو مخادعة، أو قد تكون –ببساطة– كسولة وسطحية، حسب تحليل فوكوياما.

 

تفاهة خطاب الكراهية: المخادعون أكثر "خيابة" من الكارهين:  

 

الشخصية النرجسية هي منبت خطاب الكراهية والتضليل، إذ تظل في حالة من الترقب والقلق والهوس بالأخطاء، من دون أن تكون قادرة على المضي قدمًا كي تجد وسيلةً للخطأ، فالنرجسية أداة تدمير وقوة معنوية من أجل تحقيق الشر.

ظاهرة النرجسية في أوروبا، وما أنتجته من خطاب تحريضي ضد الآخر، لم تقف عند محطة النازية والفاشية، بل قادت آثاره إلى نزع تسيس المجتمع على نطاق واسع، فأصبحت النضالات من أجل العدالة الاجتماعية "هرطقات معادية للتعدد الثقافي وللهجرة". ونزعت النرجسية، بعدميّتها المختلّة، خبرات التعلم من الآخر والاعتراف المتبادل وقيمة التضامن من الفضاء العام وعمل السياسة وتنظيرات السياسات العامة.

وفي المجال التربوي والتعليمي الغربي الذي يسيطر عليه العقل النرجسي المتحيز نحو المركزية الغربية، دجّن سلوك النرجسية الفردَ بدلاً من تحريره وتعزيز قيَمه الشخصية. ومع تطورات البنية النرجسية وتغلغلها في السلطة والمؤسسات، أنتجت حداثتها ذات العقل الأداتي، ووضعت قواعد للسيطرة على المجتمعات عبر  تشويه قواعد التواصل والتفاهم بين الأفراد والقبيلة والجماعات الدينية والطبقات الاجتماعية، وأتى العقل النرجسي المتحيز في نسخته الأوروبية لاحقًا بالإعلام المتحيز ووسائل التواصل الاجتماعي التي وسّعت –بدورها– من دوائر النرجسية في المجتمع، وزادت من حدة التوتر المجتمعي، وخلقت صراعًا متحركًا بين الرغبة في الاعتراف بالمساواة والرغبة في التفوق على الآخرين، مستخدمةً وسائلها المشروعة وغير المشروعة، وأصبحت خطابات الكراهية وحروب التضليل الإعلامي والمعلوماتي والتكنولوجي هي المسرح الذي تجري فيه الأحداث السياسية العالمية.

أحدث الدراسات عن المعلومات المضللة تقول إن العقل البشري مهيأ على نحوٍ أفضل لإيجاد مبررات لانحيازاته المسبقة. ويستخدم الناس منصات التواصل الاجتماعي لأسباب مختلفة، من بينها رغبتهم في إعادة تأكيد معتقداتهم المسبقة، ويستخدمونها أيضًا بغرض التواصل مع الأفراد المشابهين لهم في التفكير، سعيًا نحو الاندماج الاجتماعي. وفي المقابل أصبحت الحاجة إلى تقدير كوني للذات حركة عالمية، ولكن تقدير الذات ينبغي أن يشتمل على مسؤولية اجتماعية وعلى احترام الآخرين وعقولهم؛ ويقال إن الجريمة هي نتيجة مباشرة لغياب ذلك الاحترام.

غالبًا يستمد خطاب الكراهية طاقته من غياب الإحساس بالخجل. إن لم يشعر المرء بالخجل من فعل أشياء سيئة للآخرين، فسيواصل في تصدير خطاب الكراهية، ويتملكه شعور بتقديرٍ متدنٍّ للذات، ويجد صعوبة بالغة في الالتزام بمعايير عادلة وشفافة لإدارة الصراع مع الآخر المختلف، فيتخذ وسائل مخادعة ونرجسية وكسولة وسطحية لإدارة صراعه، أي ببساطة ينتج خطاب كراهية رخيص ويصدر معلومات مضللة بغرض الحفاظ على توازنه النفسي والمعنوي الهش.

ترى الكاتبة والروائية التركية أليف شافاق في كتابها "كيف نحافظ على عقولنا في عصر منقسم"  أن المتعصبين أكثر شغفًا وانخراطًا والتزامًا من كثير من المعتدلين. وتقول إننا محاطون بمشاعر سلبية في وجه الأخبار والأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية المتسارعة؛ ونشتاق إلى البساطة، فننكفئ إلى أنفسنا، وننحصر في دائرة المألوف، ونخترع (دوائر الحسينيات) والشلل الضيقة، وهنا تأتي اللحظة الخطرة، ففي مثل هذا الوقت تحديدًا يتحرك الدهمائيون والشعبويون ويقدمون وُعودهم ويبسطون لنا الأشياء عبر خطابات الكراهية ذات الطابع الشعبوي4. وهنا تقف السياسة عاجزةً عن تصريف رغبات التفوق الجامحة، فتبدأ الحرب.

الشعوبية واحدة من أخطر أزمات النظام الليبرالي العالمي. ويحاول فرانسيس فوكوياما في كتابه المذكور آنفًا فهم جذور الصراع الهوياتي الناشئ أساسًا بين الليبرالية والشعبوية، فيعرّف الشعبوية بأنها "ديمقراطية من دون ليبرالية"، ويدقق النظر في تياري الهوية اللذين أفرزتهما الحداثة الاقتصادية والاجتماعية: الفرداني (عبر فلسفة لوثر ورسو وكانط وهيغل) والذي انتهى نظريًا، حسب زعم فوكوياما، بإقرار شرعة حقوق الإنسان؛ والجمعي (عبر هيردر ولاغارد) والذي قاد القومية العدوانية إلى نهايتها النازية والفاشية.

وهذا مدخل جيد للحديث عن المعلومات المضللة وخطاب الكراهية في سياق حرب 15 أبريل 2023 الدائرة حتى الآن في السودان، بطريقة فظيعة ومقرفة وذكورية، في خطاباتها وممارساتها، بما فيها القتل على الأسس الإثنية والقبلية والجهوية والفروقات اللونية واللغوية وغيرها. ومن جهة أخرى، تنتشر في وسائط التواصل الاجتماعي معلومات مضللة وخطابات تُستخدم، حسب خطة مسبقة، لخداع الجمهور والتأثير بقوة في المشاهدين، والتحريض على العنف والقتل، من جميع الأطراف.

يتركز الجدل غالبًا على سؤال جوهري يولّد –بدوره– تناقضات ثانوية. سؤالنا الجوهري هنا: من أين نبدأ تحليل جذور خطابات الكراهية المرادفة للجرائم والانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان في الحرب الحاليّة في السودان؟

الخطابات التي انتشرت كالنار في الهشيم، والتي استخدمت فيها تقنيات الذكاء الاصطناعي، من استنساخ الصوت وبرامج توليد الصور، في إنشاء المعلومات المضللة والمحتوى التحريضي، لتُنشر وسط مجتمع منقسم بالعنف البنيوي والعدوان الثقافي منذ الاستقلال. فمنذ بدايات الاستقلال ظلت الصفوة البرجوازية (المدنية والعسكرية) مسيطرة على الامتيازات والسلطة المتوارثة من المستعمر، عبر استخدام العنف كأداة أساسية في السياسة وفي إدارة الدولة. وأوضح دليل على ذلك أن أطراف الحرب الحالية هي التجلي الأساسي لأيديولوجيا خطابات الكراهية والعنف في تاريخ السودان الحديث.

جذور هذه الأيديولوجيا بالتأكيد متأثرة بسياقات الحرب الباردة وخطاب المجاهدين العرب وخطاب الثورة الإيرانية في 1979، وبالحرب الليبية التشادية وخطاب التفوق العربي الذي أنتجته، وخطاب مليشيات الدفاع الشعبي وجحافل "الفيلق الإسلامي" التي موّلها معمر القذافي من أموال النفط الليبي، للسيطرة على منطقة الساحل الأفريقي.

وحسب تحليلات أكاديمية وثّقت أحداث تلك الفترة، منها كتاب البروفيسور شريف حرير (السودان: النهضة أو الانهيار)، وكتاب البروفيسور محمود ممداني (منقذون وناجون: السياسة والدين في أفريقيا المعاصرة)، استلم الصادق المهدي أموالًا من القذافي ليدفع بها للفوز في انتخابات ما بعد انتفاضة مارس/ أبريل 1985، مقابل أن يترك منطقة دارفور الحدودية مع دولة تشاد كحديقة خلفية لمليشيا الفيلق الإسلامي التي طردت السكان المحليين من أراضيهم الزراعية الخصبة، بخطاب أيديولوجي مستورد من الحرب التشادية الليبية، يدعي تفوق القبائل العربية على القبائل الأفريقية. وعلى هذا الأساس تُرجمت هذه الأيديولوجيا على أرض الواقع في حرب دارفور، بأعمال العدوان والإبادة التي وثقتها المنظمات الوطنية والدولية، حتى أصبح البشير وكبار قادة نظام "الإنقاذ" مطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية.

كان التطبيق العملي لخطاب الكراهية والتحريض على العنف والعدوان بصيغته القبلية، في "مجزرة القردود" في العام 1985. وأشارت أصابع الاتهام إلى وزير الدفاع آنذاك (فضل الله برمة ناصر) الرئيس المكلف لحزب الأمة القومي حاليًا، إذ سلّح مليشيات من القبائل العربية في تلك الفترة، للاعتداء على قبائل النوبة من سكان المنطقة. والغريب أن قوات الشعب المسلحة أصدرت بيانًا آنذاك، كشفت فيه عن حقائق المجازر التي حدثت في القردود. فيما أصدر حزب الأمة بيانًا يشكك في بيان القوات المسلحة. وراح ضحايا "مجزرة القردود" بين ملاسنات القوات المسلحة وحزب الأمة وبيانات النفي والتأكيد5.

وكان سبب "مجزرة القردود"، حسب تشخيص عمر القراي، هو تحريض "تجمع أبناء كردفان ودارفور" للمجلس العسكري الانتقالي، عبر مذكرة وقعت عليها 16 رابطة واتحاد، في 14 أغسطس 1985، وتجاوب معها أهالي كادوقلي، وتمخض عنها تنظيم "الدفاع الشعبي" الذي دعا إلى فكرته المجلسَ العسكري إمامُ مسجد كادوقلي. وحينما جاءت الحكومة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي واصلت في تسليح المليشيات العربية في كردفان ودارفور، وحدثت "مجزرة الضعين" في سياق التحريض نفسه، ولكن في عهد ديمقراطي.

وأما "الإنقاذ" فقننت في عهدها الدفاع الشعبي بالقانون، وعدّت الدفاع الشعبي جيش الجهاد، وعبأت المواطنين المدنيين، عبر مؤسسات الدولة وباستخدام خطاب الكراهية والتحريض، لفتح جبال النوبة والجنوب، إذ صنفت المكونات الاجتماعية لهذه المناطق "مجموعات معادية للحكومة والأمة السودانيتين". وسعَت "الإنقاذ" حثيثًا، عبر الخطب في الساحات العامة والمساجد، مع خطوات عملية لنشر الإسلام واللغة العربية بالقوة وثّقتها تقارير حقوق الإنسان والمنظمات الوطنية الدولية.

تواصل هذا العنف حتى وصلنا إلى مجزرة القيادة العامة للجيش في الثالث من يونيو 2019 وجريمة الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 والخيانة الوطنية في حرب 15 أبريل 2023 التي سعى مهندسوها إلى قبر تطلعات الشعب السوداني ودفن أحلامه، بالعنف والكراهية، وقتلهم وسلبهم قسريًا بالسلاح "الحرية والسلام والعدالة والكرامة والسيادة الوطنية" التي عبر عنها الشعب في ثورة ديسمبر 2018.

تعود جذور الحرب الحالية في السودان إلى أسباب بنيوية وهيكلية في بنية دولة ما بعد الاستعمار، إذ تجلت آخر هلوسات الدولة السودانية في حرب الجنرالين (البرهان وحميدتي)، للاحتفاظ بسلطة الدولة ومواردها وامتيازاتها، عبر صراع متأصل في بنية الدولة المشوهة في مؤسساتها (مثل الجيش والأمن والشرطة)، وتداخل نرجسية الجنرالين ودور الفرد في التاريخ مع بنية دولة مشوهة. أدى كل ذلك إلى حرب مدمرة من جميع النواحي.

أما تحالف أطراف الحرب الحالية فتعود جذوره إلى "مجزرة القردود"، كما ذكرنا، من جهة أيديولوجيا التحريض الاجتماعي للعنف عبر خطاب الكراهية وتسليح القبائل عبر وكلاء الإدارات الأهلية وحشد الشبان للقتال تحت مسميات القوات النظامية. وتعود إستراتيجية تعبئة المليشيات القبلية إلى عهد حكومة الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب، والتي اعتمدتها لأول مرة بطريقة ممنهجة، في جنوب السودان في العام 1985، لتكون نموذجًا لكل الحروب اللاحقة في جبال النوبة، وفي حقول النفط في السودان، ومؤخرًا في حرب دارفور.  

تقول الباحثة الفرنسية جولي فلينت في كتابها "ما بعد الجنجويد: فهم مليشيات دارفور": "بحكم ضخامة التكلفة المالية لتعبئة الجيش لمحاربة المتمردين الجنوبيين في الجيش الشعبي لتحرير السودان (SPLA) وعدم شعبية التجنيد والشك في ولاء العديدين من ضباط الجيش، عملت الاستخبارات العسكرية على تسليح قبيلتين عربيتين في ولايتي جنوب دارفور وجنوب كردفان، هما المسيرية والرزيقات الجنوبية، وشجعتهما على تدمير المجتمعات التي يشتبه في دعمها للجيش الشعبي لتحرير السودان، وما كان يدفع للمليشيا الملقبة بالمراحيل، سمح لها بالحفاظ بما تغنمه، بما في ذلك قطعان الماشية والممتلكات المنزلية، بل حتى النساء والأطفال، وصيغة مكافحة التمرد هذه اشتملت على القتل العرقي المستهدف والإفلات من العقاب كاملًا"6.

ومن الأسباب المباشرة للحرب الحالية في السودان، وما تمخضت عنها من انتهاكات واعتداءات وحشية وخطاب كراهية، هو استحالة استدامة وجود جيشين بقيادتين مستقلتين في دولة واحدة ، ناهيك عن وجود مليشيات قبلية متعددة، كما هو حاصل في السودان اليوم.

وهدفت أغلب سياسات فترة ما بعد الاستقلال في السودان إلى إدارة الحروب بأقل التكاليف وإحلال السلام بأقل كلفة. واعتمدت الدولة على التجنيد محليًا لكبح أي مشروعية تطالب الدولةَ بحقوقها الأساسية في الحياة الكريمة.

إن صعود خطاب الكراهية في فضاء حرب 15 أبريل 2023 هو نتيجة مباشرة لمشكلة كبيرة في الهوية وتراكم تاريخي للعنف الهيكلي والثقافي والسياسي في السودان. وخطاب الكراهية لا يمثل أساسًا ظاهرة دينية أو عرقية أصيلة، كما أن خطاب الكراهية ليس سمة أزلية لدين معين أو عرق أو أيديولوجيا معينة، بل إن أغلب المجتمعات، في لحظات عديدة، توفر لنفسها أيديولوجيا تفسر بها شعورها بالاضطراب عبر المتاجرة بمفهوم "الضحية" الذي يلقي باللائمة على مجموعات خارجية، ويحملها مسؤولية الوضع التعيس الذي تعيش فيه، فتنتج خطابًا يطالب بالاعتراف بالكرامة، بطرق تقييدية منحازة إلى مصالحها الضيقة، وليس إلى حرية أو كرامة تستوعب كل البشر، بل كرامة محصورة على جماعة قومية أو عرقية أو دينية معيّنة.

هذا النوع من التشخيص الذي يُرجع خطاب الكراهية إلى الأفكار والمشاعر السلبية التي تحفز السلوك الإنساني وتستغل الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتحشد عبرها المجتمع، لا سيما الشبان، نحو الحرب والعدوان، هي البداية الصحيحة للتعامل مع مشاكلها من الناحية العملية.

 

المراجع:

ما هو خطاب الكراهية؟ مقال منشور على موقع الأمم المتحدة.  

فرانسيس فوكوياما، الهوية: مطلب الكرامة وسياسات الاستياء، ص 21، ت: مجاب الإمام، إصدارات منتدى العلاقات العربية والدولية، 2019 م.

إيريك فروم، جوهر الإنسان، ص 14، ترجمة: سلام خير بك، دار الحوار للنشر والتوزيع، 2011م.

أليف شافاق، كيف نحافظ على عقولنا في عصر منقسم، ص 53، دار الآدب،  2012م.

عمر القراي، المشورة الشعبية؟!، سودانايل، 23 سبتمبر 2010 م.

جولي فلينت، ما بعد الجنجويد: فهم مليشيات دارفور، مشروع مسح الأسلحة الصغيرة، المعهد العالي للدراسات الدولية والتنموية، جنيف، 2009 م. 

اترك تعليق

التعليقات

sds 26-12-2024

ekfkejf dwedwesdkndf dwkwkd qwdowqd. wqdwd. qwdokqwd

sds 26-12-2024

To place the name and date on the same line, with the name aligned to the left and the date aligned to the right, you can use Bootstrap's grid system and utility classes. Here is the improved code

قصص بحاجة إلى أن تُسمع. اقرأوها وشاركوها على نطاق واسع

  • القصص
  • الرئيسية
  • تواصل معنا

© 2024 Ananas Tech - جميع الحقوق محفوظة