في ظل تصاعد النزاعات والتوترات في العديد من الدول، دائمًا ما يبرز خطاب الكراهية كأداة فعالة في تأجيج العنف وتوسيع الفرقة بين المجتمعات. في هذا الإطار، يتناول هذا المقال مفهوم خطاب الكراهية في السياق السوداني، حيث تشهد البلاد حربًا مستعرة تسببت في انتشار واسع لخطابات الكراهية عبر مختلف وسائل الإعلام والمنابر السياسية. ويهدف المقال، في الأساس، إلى تقديم تحليل نظري لديناميات هذه الخطابات وتأثيرها في اتجاهات النزاع، ومن ثم إلى تقديم بعض الإستراتيجيات التي قد تساعد في مكافحتها في المراحل المقبلة.
عمومًا، يشير مفهوم خطاب الكراهية إلى شكل من أشكال التعبير الذي ينطوي على التحريض ضد مجموعة معينة، بناءً على العرق أو الدين أو الجنسية أو غيرها من الهويات الجماعية. في الواقع، يمكن أن يشمل هذا الخطاب تصريحات لفظية، وكتابات، وصور مسيئة، أو أي وسيلة أخرى تهدف إلى نشر العداء تجاه أفراد هذه الجماعات أو الهويات.
بالطبع، هناك الكثير من التأسيسات النظرية التي تفسر صعود خطاب الكراهية؛ منها الذي يرى أن المجتمعات تتكون من مجموعات متنافسة تسعى كل واحدة منها إلى السيطرة على الموارد والسلطة، وتصطدم هذه الجماعات غالبًا عندما تفشل في التواضع على مشروعٍ يُذوّب هذه الاختلافات وقوانين تنظم هذا التنافس. ووفقًا لبعضها الآخر، فإن الأفراد عادةً ما يميلون إلى تصنيف أنفسهم والآخرين إلى مجموعات مختلفة، ويمكن لخطاب الكراهية أن يعزز هذه التصنيفات ويزيد من الشعور بالاختلاف والعداء، ومن ثم تأجيج النزاعات بين الجماعات. وفي الآونة الأخيرة، أصبح انتشار وسائل التواصل الاجتماعي عاملًا من عوامل تصاعد خطاب الكراهية، لا سيما مع اعتماد الساسة وأصحاب الأيديولوجيات على هذه الوسائل في تعبئة الجماهير وتحريضها ضد الخصوم المحتملين.
على مدى العقود الماضية، شهد السودان صراعات متعددة الأوجه، شملت توترات اجتماعية وسياسية، والقاسم المشترك بين جميع هذه الصراعات هو أنها كانت محفوفة بخطابات الكراهية التي تسعى إلى تعزيز الفوارق بين المجموعات الثقافية والجماعات المناطقية عبر سردية "نحن" و"هُم". وواقع الأمر، أنه لطالما استخدمت هذه السردية أداةً لتبرير القمع والتنكيل بالخصوم في خضم الصراعات. وتاريخيًا، استخدمت جل الحكومات السودانية المختلفة هذه الخطابات لتعزيز سيطرتها وتبرير سياساتها، مما أدى إلى تفاقم التوترات وتعميق الخلافات بين المجموعات المختلفة. وأكثر من ذلك، أدى توظيف خطاب الكراهية إلى بروز ندوب وجروح في الجسد الاجتماعي وشروخ عميقة في الوجدان.
لقد لجأ طرفا الحرب الحالية التي اندلعت في 15 أبريل 2023 في السودان، إلى تبني خطاب الكراهية وتغذيته، بعد فشلهما في تقديم سرديات متماسكة بشأن أسباب الحرب والغاية منها. وفي الحقيقة، أصبح استخدام خطاب الكراهية الوسيلةَ الوحيدة المتبقية لكلا الطرفين لاكتساب الدعم الشعبي والتأثير في الرأي العام، إذ يصوِّر كل منهما الآخر َعدوًا مشتركًا يجب القضاء عليه. وساهمت هذه الإستراتيجية في تصعيد النزاع وزيادة حدة العنف وتنامي ظاهرة الاصطفاف القبلي. والأدهى والأمرّ أنها وسّعت الشقة بين مجموعات ثقافية وإثنية ومناطقية بعينها. ويمثل بروز النزعة المناطقية والإثنية نقطة تحولٍ فارقة في الصراع الحالي، في ظل جرائم القتل التي تمارسها "الدعم السريع" على أسس عرقية في مدينة الجنينة بغرب دارفور، وكذلك مع حملات الاعتقال التي شنتها الأجهزة الأمنية السودانية على أسس عرقية أيضًا، على من وصفتهم بـ"الخلايا النائمة" لدعم التمرد، في أكثر من مدينة، وينحدر معظمهم من الإقليم الغربي وينتمون إلى قبائل دارفور بالأساس. لقد فتح هذا الأمر الباب على مصراعيه أم التحالفات العشائرية والمناطقية، وينذر بانتقال الصراع إلى مستوى أكثر تعقيدًا، ويغذي سيناريو تقسيم الدولة وتفتيتها.
على كل حال، أخذ خطاب الكراهية في سياق الحرب الحالية عدة صور، منها: نزع المواطنة، وذلك من خلال انتزاع مشروعية حق جماعة معينة في الانتماء إلى الكل الاجتماعي أو هوية الدولة، كما هو واضح في مصطلح "عرب الشتات"؛ وكذلك عبر الانتقاص من الثقافة أو وصمها، مما يعمق الاختلافات القائمة على أساس الثقافات والهويات الجزئية، دون أن ننسى الوصم التاريخي الذي يُستحضر بأحداث تاريخية سلبية بعينها وربطها بمجموعات معينة، مما يعزز الشعور بالعداء والرغبة في الانتقام من أفرادها؛ وأخيرًا، تهييج مشاعر الغضب تجاه المختلفين سياسيًا، ورميهم بالخيانة والعمالة والارتزاق.
تستوجب مكافحة خطاب الكراهية تبني نهج شامل، يشمل الأطر القانونية والتشريعية التي تفرض عقوبات واضحة وقابلة للتنفيذ على الجهات التي تنشر مثل هذه الخطابات، لا سيما وسط مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى تعزيز التعليم والتوعية، والدعم المكثف لحملات التثقيف التي تعزز قيم التسامح والتعايش السلمي. هذا، ويمكن أن يضطلع المجتمع المدني بدور محوري، من خلال تنظيم حملات توعية وأنشطة تعزز التفاهم بين المجموعات الثقافية المختلفة. كما يمكن للمجتمع الدولي تقديم دعم فني ومالي، والمشاركة في حملات التوعية بمخاطر خطاب الكراهية وأثره المباشر في النسيج الاجتماعي. من خلال هذه الإستراتيجيات وغيرها، يمكن الحد من تأثير خطاب الكراهية وتعزيز التعايش السلمي في السودان.
خلاصة القول، صحيحٌ أن هذه الحرب ككل الحروب التي شهدتها الدول والسودان نفسه، إذ يحمل طرفاها مسوغات لتبرير موقفيهما، لكنها في الحقيقة تمثل اختبارًا جديًا لمدى إمكانية تماسك الدولة والأمة في السودان، بالنظر إلى تنامي الحزازات الاجتماعية التي برزت مع خطابات الكراهية التي انتشرت معها. والحال أن هذه الخطابات قد ارتبطت بالتحريض على العنف وتقويض التماسك الاجتماعي وعدم التسامح والتسبب في أذى نفسي وعاطفي وجسدي للمتضررين، كما جاء في أحد تقارير الأمم المتحدة.
لا توجد تعليقات