كان السودان قبل انفصال الجنوب ضمن أكبر دول القارة الافريقية وأكثرها تنوعاً من الناحية الثقافية وتعدد قبائلها بالاضافة تعدد انماط الانتاج وسبل كسب العيش، إن عوامل التعدد الثقافي والقبلي مرتبطة تمام الارتباط بتنوع الجغرافي، مع وجود هذه المجموعات في معظمها في مناطق جغرافية محددة وبالتالي تتداخل مع انماط الانتاج التي تحددها العوامل الجغرافية لكل مجموعة ثقافية أو قبلية، وتزداد هذا الارتباط في المناطق الريفية التي تحضن اكثر من 80% من السودانيين من المنتجين في القطاع الزراعي و الرعوي .
ومنذ قبل الاستقلال تعد مسألة التعدد ضمن النقاشات السياسية والثقافية في اطار قضية الهوية، فكان المدرسة التي تنادي بالهوية العربية وتليها التيار التي تنادي بافريقية الهوية ومن ثم ظهرت تيار آخر توفيقي تنادي بهوية الأفروعربية وتيارات أخرى أقل تأثيرا تنادي بسودانية الهوية بما يضمن الاعتراف بالتنوع كسمة اساسية للسودان، بالرغم من أن هذه النقاشات حول قضايا الهوية والتنوع قديمة قدم السودان ما بعد استقلال إلا أنها على المستوى الرسمي في الدولة كان التيار العروبي هو التيار الذي سيطر على الدولة وبالتالي لم تتبلور القوانين والمشاريع السياسية والتنموية التي تعترف بالتنوع على أساس المواطنة المتساوية بدرجة التي تؤسس بالانتماء الوجداني الوطني المشترك بين السودانيين .
ظلت هذه القضايا الشائكة بعيدة كل البعد من المعالجة في الإطار الدستوري والعقد الاجتماعي لدولة ما بعد الاستقلال وتتعقد تاريخياً، رغم بروزها التلقائي في أي إطار سياسي تأسيسي لارتباطها الشديد بالمجتمع، السياسية والاقتصاد، الا انها كان مكان النكران في غالب مراحل الحكم الوطني، حينما فرضت الأحزاب المتحكمة بالدولة اقروا أحادية الثقافة بدلاً من إيجاد صيغة دستورية ومشروع وطني قوامها هذه القضية المركزية، وأصبحت هذه القضايا ضمن قضايا مشروع سياسي لمعارضي السلطة في جنوب السودان ولاحقا في دارفور، جنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان ، وأصبحت في مركز الخطاب السياسي للنواة السياسية للحركة السياسية الناشئة في الجنوب السودان والتي بدأت أول ما بدأت بالمعارضة المسلحة الآخذة في التطور الى انتهت بانفصال جنوب السودان.
وتعتبر قضية الإدارة التنوع والتعدد هي العامل الأساسي في الحروبات الاهلية التي استمرت طوال تاريخ السودان ما بعد استقلال وحتى اللحظة، وأن الحكومات المتعاقبة ظلت تتعمد التعامل مع هذه القضية في إطار حربها مع الحركات المسلحة في جنوب، النيل الأزرق، وجنوب كردفان، وشرق السودان وإقليم دارفور، وبدلاً من معالجة هذه القضايا والتعامل معها بشكل جدي، وأصبحت الحكومة تقسم المجتمعات المحلية على أساس قبلي ومناطقي في إطار سياسة التحشيد لمكافحة التمرد المتمدد كما ترى وتدعي، بالطبيعة كارثية الحرب بطبيعتها ساهمت الحروب الأهلية في تعميق مسألة الانقسامات الاجتماعية والمناطقية بين المجتمعات وعملت الحكومات على استقطاب على أساس مناطقي وقبلي وادت ذلك إلى انقسامات حادة واتخذت القبائل مواقف السياسية بين من يدعم المعارضة المسلحة أخرى توظفها الحكومة مما نتجت عنها على المدى البعيد إلى انتشار حروب جانبية على أساس قبلي كانت ضحاياها بالآلاف، وسببها هي سياسة فرق تسد المتبعة.
وتجلت فشل الحكومات والنخبة السياسية في إدارة التنوع واعتراف المجموعات السودانية في كافة السودان في فوارق تنموية كبيرة بين المجموعات والمناطق المختلفة كما هي شائع بين المدن والريف، وبين مناطق وسط السودان وأطرافها وبالتالي تجلت في أن هناك مجموعات ثقافية لديها حظوة اقتصادية والسياسية أكبر بكثير من مجموعات أخرى، وكذلك على المستوى الخدمات العامة وبالرغم من ضعف بنية الخدمات العامة في السودان إلا أن هناك عدم عدالة في توزيعها بين مناطق السودان المختلفة في التعليم، الصحة، توفير المياه، التحويلات المالية الحكومية. وكذلك في حظوة الثقافات المختلفة بالاعتراف والنمو لتشكل هوية السودان في اطار الانصهار العادل بدلاً من الذوبان في ثقافة احادية كما كان مبتغى الحكومات المتعاقبة.
وزادت حرب 15 أبريل الجارية من حدة الانقسامات الاجتماعية على أساس قبلي مناطق بين السودانيين وظهرت موجة التحشيد بين طرفي الحرب، وكان السمة الاساسية في خطابات أطراف الحرب ومعيدها بالطريقة التي تهدد وحدة السودان كدولة وتقليل فرص التعايش السلمي بين السودانيين في إطار المواطنة المتساوية، حيث ظهرت ولأول المرة أن تدعم القبائل من قمة هرمها الإداري طرف من أطراف الحرب في إطار التحشيد التي تمارسها الأطراف عبر الادارت الاهلية لقبائل محددة كما عند الدعم السريع والاستنفار الاهلي عند الجيش على عكس من الحروبات الأهلية السابقة والتي بالرغم من حالة التحشيد القبلي إلا أنها لم تصل ما توصلت إليه الحرب الحالية في كونها حرب بين قوتين تتبعان للدولة قبل الحرب.
وبالرغم من أهمية ثورة ديسمبر واوعي الوطني والحس المشترك التي تشكلت أعقاب الثورة ولكن ظلت أطراف محددة وخاصة المرتبطة بالنظام المباد والمؤسسة العسكرية تعمل عكس ذلك في الحفاظ على الانقسامات القبلية لتعود بها الى السلطة وعملت على إشعال حروب قبلية في مناطق قبلية، والتحشيد على أساس مناطقي والقبلي في قضايا سياسية، وذلك في إطار إفشال فرص الانتقال الديمقراطي والتي انتهت بالانقلاب والتي كان مدخلها تحشيد القبائل وادارتها الاهلية قبل ان تنتهي بالحرب الجارية الان. كما أن النخبة السياسية التي حكمت الفترة الانتقالية تتحمل جزء من المشكلة في كونها لم تخاطب جذور المشكلة بالطريقة التي تزيل مخاوف المجموعات والمناطق المختلفة وتضمينها ضمن مشروعها الوطني في إطار التحول الاجتماعي والسياسي الشامل في السودان.
بعد مرور ما يقارب السبعين عام من الحكم الوطني اتضح أن قضايا الهوية وإدارة التنوع التي تزخر بها السودان لا يمكن إلا بوضعها في قلب العمليات السياسية بما يضمن الاعتراف بالتنوع في الإطار الدستوري القانوني، السياسي الاجتماعي والثقافي للمشروع الوطني التي ينبغي أن تكون من حاصل المشاركة العادلة للسودانيين في بلورتها بالأصالة، وبالرغم من الأوضاع الكارثية التي تخلفت الحرب الجارية أن هنالك فرص كبيرة لهذا التحول التي تنتهي بدولة المواطنة التي توفر فرص الحق في الحياة بصورة متساوية، وأن فرص الإدراك بأهمية بحق الجميع المشاركة أكبر في هذه المرحلة، وتاريخ الشعوب من حولنا يخبرنا أن التحولات الاجتماعية والسياسية الكبيرة في كثير من الأحيان تزداد فرصتها في اللحظات الحرجة والكارثية.
وبالرغم من كارثية الأوضاع وضعف تأثير من القوى المدنية من الأحزاب السياسية والحركات الشبابية والنسوية، ومنظمات المجتمع المدني والنقابات وغيرها من القوى المدنية التي تتطلع بالوقف الحرب والعودة الى العمليات السياسية التي تؤسس لمرحلة جديدة من عمر الدولة السودانية، الا ان هنالك فرص كبيرة للعب ادوار اكبر وطرق وآليات جديدة تستفيد من إرثها في العمل المدني وتتجاوزها إلى ابتكار طرق تفكير جديدة توازي الكارثة الحالية وتجاوزها بمشروع وطني تأسيسي في السودان تضمن مشاركة السودانيين في معالجة الجذور التاريخية للمشكلات الاجتماعية والسياسية وفي مقدمتها مشاكل المتعلقة بالهوية وادارة التنوع والتعدد بالطريقة التي تؤسس لدولة مواطنة عادلة في السودان.
لا توجد تعليقات