"دائمًا تبدأ الإبادة الجماعية بأعمال صغيرة وكلمات". – أداما دينغ مستشار الأمم المتحدة الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعي.
مَن أنت من دوني؟:
كلمة "العدو" لها جذور في اللاتينية ومن قبلها اللغة السومرية، وتُستخدم، على الأقل منذ القرن الثالث عشر الميلادي، بمعنى الفرد أو المجموعة التي تُعدّ مصدرَ تهديد. ومع احتفاظ المفردة بهذا التعريف في معاجم اللغة إلا أن تغييرات جوهرية طرأت على معناها الاصطلاحي؛ فاليوم ليس بالضرورة أن يكون العدو مهدِدًا، إذ يمكن تصنيفه استباقيًا، في حال إمكانية امتلاكه القدرة على التهديد، ولا يقتضي تبوؤه هذا الموقع أي مساهمات من قبله، بل نحن مطالبون –في حالة عدم وجود عدو– باختلاقه. (اختلاق العدو) أو ابتكاره كان موضوع مادة شهيرة للفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو (1932 – 2016) ألقاها أولًا في محاضرة، ثم دونها ونشرها لاحقًا في كتاب بالاسم نفسه في العام 2013. أوضح إيكو أن فكرة العدو كامنة وراء هوية الأمم، فيقول: "إن وجود عدو أمرٌ مهم، ليس فقط لتحديد هويتنا، ولكن أيضًا لتزويدنا بعائق نقيس ضده نظام قيمنا"، وأن الدول التي كانت محظوظة بما يكفي لتمتلك أعداء حافظت على وحدة الجماعة والهوية القوميّة. فعدوّ الدول والجماعات هو "الآخر" لتعريف "الأنا"، أو "الين" و"اليانغ" في الفكر الصيني، أو الطاقة الذكورية والطاقة الأنثوية في الفكر الغربي؛ وهي مفاهيم متناقضة ولكنها متلازمة. قد نجد جذورًا تاريخيةً تدعم وجهة النظر هذه، ولكنها أيضًا تدفعنا إلى التساؤل: هل يشعر المجتمع الحديث بالحاجة إلى تعريف نفسه وإثبات هُويته من خلال مقارنة نفسه بعدو بعينه وتشويه صورته؟ وهل يمكن أن تستغني الدول اليوم عن خلق "أكباش فداء" جديدة لتعزيز شعورها بالهُوية الوطنية والقوة؟ ومن هو "السوداني" بمعزل عن الصراعات التي لازمته منذ تأسيس دولته؟
من الآخرية إلى الشيطنة:
إذا سلمنا بالحقيقة التاريخية وأنّ من الصعوبة تصور وجود هوية من دون أعداء –حقيقيين أو متخيَّلين– فإن المعضلة الأخلاقية ليست في مجرد وجود الأعداء، وإنما في تعميم صورة نمطية شيطانية عن العدو، ونزع الصفة الإنسانية عنه، والقطيعة التامة معه؛ بحيث تغدو أي محاولة لفهم منطق العدو والتعاطي معه، مثيرًا للاتهام والتخوين. إنّ مثل هذه النزعة الجوهرانية في التعامل مع العدو من شأنها أن تؤدي إلى شرعنة استباحته والفتك به دون الشعور حتى بوخز الضمير!
إن كانت عملية تغريب الآخر وشيطنته ضرورية لمعاداته واستسهال الفتك به، فيمكن تصور أن هذه العملية أسهل في حالة مجموعتين متمايزتين طبيعيًا، من حيث الشكل والعادات واللغة والديانة، وكلما زادت الاختلافات التي يمكن عزلها بوصفها مكمن الشر، سهُل الفتك بالعدو. لكن الأمر سيتطلب جهدًا أكبر في حالة الحروب الداخلية لأن المجموعتين بينهما عوامل ربط أكثر من عوامل التفرقة: تاريخ وذاكرة مشتركة، فضلًا عن مصالح اقتصادية وحق مشترك في الثروات والموارد الطبيعية، بحكم وجودهما في حيز جغرافي واحد. وبقدر صعوبة تغريب الأقارب، ستكون صعوبة إزالة العداوة متى ما وقعت، فالضغائن ستكون أكثر عمقًا ويصعب القفز عليها، ولن تتوقف فقط بتوقيع اتفاق سلام أو معاهدة لوضع السلاح. وأوضح مثال على ذلك، نجاح الخطاب المؤيِّد لانفصال السودان وجنوب السودان، مقارنةً بالخطاب الداعي إلى فصل دارفور، فمع أن الخطابين ينطلقان من أساس واحد، هو المظلومية وعدم التوزيع العادل للثروة والسلطة، لكن اختلاف ديانة أغلب سكان جنوب السودان عن شماله، قدم لمؤيدي الانفصال آنذاك خدمةً جليلة، بينما التباين في مكونات إقليم دارفور صعّب المهمة وأطال أمدها.
صوت العامة:
لما كانت وسائل الإعلام التقليدية هي أبواق السلطة، وتبث في كثير من الأحيان توجهات السلطة، فإن وسائل التواصل الحديثة تحولت إلى منصات إعلامية للجماهير؛ تبث توجهات العامة، ويشعر فيها الأفراد بحريّة أكبر في التعبير عن آرائهم، وتتطلب أدوات مختلفة للتحكم فيها أو ضبطها. في التاريخ البعيد أو القريب ثمة مئات الأمثلة لحملات إعلامية وجّهت الرأي العام ضد أقليات أو فئات بعينها أو لمصلحتها، مثل الحملة التي أطلقتها وسائل الإعلام الهولندية عن وجود احتيال في توزيع "بدل الرعاية"، مما ألحق الضرر بـ26 ألف عائلة. والمفارقة أن وسائل الإعلام نفسها أطلقت حملة مضادة وصفَت فيها إدارة الضرائب والجمارك الوطنية بالتحيز المؤسسي وانتهاك مبادئ سيادة القانون، مما أدى إلى فتح تحقيق برلماني أدى إلى الإطاحة بحكومة روتي الثالثة.
عند التفكير في أن منصات التواصل الاجتماعي ربحية وتحصل على فائدة أكبر من المحتوى الذي يثير جمهورًا أكثر لقضاء وقت أطول في مشاهدته/قراءته والتفاعل معه، نجد أن المحتوى المثير للعداء يجذب عددًا كبيرًا من المستخدمين سواء لمناصرته أو تجريمه، وعليه فهو أكثر جدوى استنادًا إلى طريقة عمل هذه المنصات؛ مع أن ذلك يتعارض مع تنصيب هذه المنصات نفسَها ضابطًا للمحتوى المتداول عليها، سواء عبر خوارزمياتها الخاصة أو عند تبليغ المستخدمين عن محتوى معين، أو بواسطة طرف ثالث تمنحه هذه المنصات صلاحية مراقبة المحتوى، وهو ما يثير مخاوف جديدة بشأن الضوابط اللازمة لمنع انحراف آليات المراقبة تلك، وتحولها إلى أذرع لقمع الحريات، تحت ذريعة حماية الأمن والاستقرار. ربما أدت زيادة الرقابة والمنع من أهمية المحتوى المحجوب، فمنذ يناير وحتى مارس 2020 أزال موقع "فيسبوك" وحده 9.5 مليون منشور يتضمن خطاب كراهية. وفي المقابل أفلتت من عين الرقابة عشرات أضعاف هذا العدد، لأن المستخدمين طوّروا وسائل للإفلات من الخوارزميات، عبر فصل الأحرف عن بعضها أو إدخال علامات على النصوص أو غيرها من الحِيَل.
ومنصات التواصل الاجتماعي التي كان لها القدح المعلى في نجاح ثورة ديسمبر 2018 التي أطاحت بالنظام البائد في السودان، تضطلع الآن بدور حيوي في الحرب الحالية، إذ يوجه الطرفان جهودًا كبيرةً في الاستقطاب عبر هذه المنصات واستعراض تقدمهما، لبث الروح المعنوية أو تثبيطها. واُستغلّ انقطاع البث أيضًا في هذه الحرب، فالتعتيم الإعلامي المتعمد على مناطق جغرافية معيّنة، أضعف توثيق الجرائم ومنَع تسليط الضوء على أحوال المدنيين. عشرات بل مئات من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي ساهموا في توليد خطابات كراهية وإعادة بثها وتحويل الحرب من معركة بين طرفين متنازعين على السلطة إلى حرب أهلية (رصدتُ بنفسي في اليوم الثالث من اندلاع الصراع المسلح في الخرطوم –أي في 18 أبريل 2023– ما يزيد على 20 تدوينة على منصة "إكس"، استُخدمت فيها عبارة "حرب أهلية" بدلًا من حرب بين جيشين أو نزاع مسلح)، مما يشير إلى وجود نوايا لتوجيه الرأي العام نحو وجهات نظر محددة. المفردات التي تصدر عن الأفراد المؤثرين المناصرين لأحد طرفي النزاع يتداولها المستخدمون على نطاق واسع، وهي في الغالب تدعم خطاب الكراهية وتقطع الطريق على محاولات التفكير العقلاني وإيجاد الحلول ورأب الصدع.
انظر إنهم يكرهوننا!:
خلَق عدم وجود تعريف صريح وواضح لخطاب الكراهية حالةً من الضبابية، وأخضعه لتقدير من يملك السلطة. ولأن القيَم قابلة للاستخدام ضد نفسها، علينا أن نكون أكثر حذرًا ويقظةً عند استخدامها، فمثلما تُطلق عبارات مثيرة للكراهية بحجة حرية التعبير، نشهد أيضًا انتقائيةً وتحيزًا عند توجيه النقد لخطابات الكراهية، حتى أصبح فزاعةً جديدةً تقيد حرية التعبير. ولعل أوضح مثال على ذلك، هو شبح "معاداة السامية" الذي يُستخدم لتكميم الأفواه عند توجيه أي نقد إلى العدوان "الإسرائيلي" على غزة. في الحرب الحالية في السودان، وكما استُهلك في السابق خطاب "المركز والهامش" حتى حُمّل ما لا يحتمل، يتخوف كثيرون اليوم من توثيق الانتهاكات أو توجيه الاتهامات إلى طرفي النزاع، لتجنب اتهامهم بإثارة الكراهية أو تغذية الصراع.
المرحلة التي تلي انتشار خطاب الكراهية وزيادة أعداد مؤيديه في مجتمع ما، هي أكثر خطورةً؛ إذ تحدُث تغذية راجعة أو حلقة لتوليد الشر، حين يتقدم مرشح رئاسي أو حزب يرغب في زيادة حصصه في البرلمان، فيغذي الخطاب المتطرف ويدغدغ مشاعر هذه الفئة أو تلك، بغرض كسب أصواتها، لأنها غالبًا ما تكون فئة مؤثرة وصاحبة نفوذ؛ وبذلك تصل الأفكار التمييزية والإقصائية إلى موقع صنع القرار، مما يزيد من احتمالية سنّ قوانين ولوائح ضد الفئات المستضعفة، كما نشهد في دول عديدة اليوم.
التغريب في لغة الشارع السوداني:
عند اندلاع الثورة السودانية في العام 2018 تفاجأ كثيرون بمقدار الخطاب المعادي الذي انتشر في الوسائط الاجتماعية، ففي حين أظهرت الأطراف المشاركة في الحراك الثوري تباينًا في تفسير شعارات الثورة (حرية، سلام، وعدالة)، واختلافًا في رؤيتها للسودان ما بعد الثورة، أو على الأقل في ترتيب الأولويات؛ استغلّ بعض الفاعلين هذا التباين في تغذية منظور تغريبي، صُنع منذ أجيال.
بعض المفردات التي يستخدمها أطراف النزاع تغرّب الطرف الآخر، فمثلًا نجد عبارات مثل: "اكنس، امسح.."، وهي لا تخلو من استعلاء، إذ يحاول كل طرف عبر مثل هذه التعابير أن يُظهر تفوقه على الآخر الذي يصوِّره ضئيلًا، مثل حشرات أو جرذان أفسدت المحصول، أو كائنات مضرة عمومًا ولكنها صغيرة الحجم بالضرورة. فتعبير "نظيف/ متسخ" متداول على نطاق واسع في عامية وسط السودان لتوصيف لون البشرة وفي الإشارة إلى اللون الأفريقي كعلامة على الاتّساخ. وفي الأغاني السودانية القديمة تظهر أوصاف مثل: "لون القمح، ولون التبر"، في إشارة إلى أنّ اللون الفاتح معادِل للجمال في المخيال السوداني، فنجد مئات الأغاني التي تمجّد اللون الفاتح مقابل تلك التي تتغني للبشرة الغامقة، وحتى في تلك الحالة تذكر الدرجات الوسطية التي تدل على المزج بين العرقين الأفريقي والعربي. بالتأكيد لا يمكننا التوصل إلى إحصاءات دقيقة؛ ففي نهاية المطاف، الأغنيات وغيرها من الأدب الموثق، كانت حصرًا على فئات معينة، وهي غير بريئة من التحيز. اليوم، الأغنيات التي تصف اللون نفسه تَستخدم تعبير (نضيف)، وتصف الفتاة التي لا تستخدم كريمات التبييض بالمتسخة. ولا يمكن أن يُقرأ هذا التغير في طريقة الوصف بمعزل عن فكرة أن هذه التعابير أصبحت جذرًا للغةِ مسلحين يكتبون "تنظيف/ تطهير المنطقة .."، عند إبادة مجموعات بشرية كاملة.
ولا يمكن الحديث عن خطاب الكراهية، دون ذكر القصيدة اليتيمة في المقررات الدراسية القديمة في المرحلة الابتدائية "منقو، قل لا عاش من يفصلنا" والتي تعلو صفحتها رسمةٌ لطفل أبيض وآخر أسود يمسكان بيدي بعضهما، في محاولة خجولة لإنشاء خطاب مقاوم للكراهية، بينما تمتلئ بقية صفحات المقرر –المكتوب باللغة العربية التي لا يتحدث بها منقو– بقصائد تمجد العروبة؛ الأبيات الهزيلة كان فيها الطفل الأبيض يأمر الأسود، قل كذا ولا تقل كذا، لأن لونه يؤهله بالتأكيد لاتخاذ القرارات نيابةً عن الأسود وتقرير مصيره!
لا توجد تعليقات