يقولون إن النعامة تدسّ رأسها تحت التراب، لأنها تهاب الخطر، ولكنها في حقيقة الأمر تدسّه لكي تسمع، نعم كي تسمع؛ فذرات التراب تنقل الصوت بوضوح، مع أن الهواء –في الواقع– ينقل الصوت أسرع من التراب، إلا أنّ النعامة ربما لا تثق في ذلك؛ فعلى كل حال يكفيها ما اختبرته مع التراب الذي لم يهز ثقتها قط، إلى حد أنّ تجربتها التصقت بالتراب، وانتقلت عبر الأجيال، جيلًا بعد جيل.
في وقت قريب، ذهبنا جماعةً لمشاهدةِ فيلمٍ سوداني، ولمّا كان الفيلم يكشط غطاء الإنكار بمخالب نعامةٍ جارحة، مهددًا بهدمه على رؤوسهم، كاشفًا الحقيقة التي يتهرّب منها الجميع؛ لم يستطع من كنتُ معهم وقتها تحمّل فكرة أنّ ما يرونه على الشاشة من لقطات بغيضة وعنصرية، تحمل خطابًا صريحًا ومؤلمًا، قد يكون انعكاسًا لواقع حقيقي، وليس من خيال كاتب السيناريو أو سياسةً تسويقيةً من مخرج الفيلم أو منتجه. لم يتحمّلوا حقيقة أن هذه العنصرية والكراهية قد ساهمت مساهمةً كبيرةً في تفكك ذات التراب الذي تدسّ النعامة وجهها فيه أو بالأحرى نحن، فحالة الإنكار التي تصيبنا وتلازمنا –نحن السودانيين– تشبه إلى حد بعيد سلوك النعامة في عدم ثقتها في حقيقة أن الهواء ينقل الصوت فعليًا أسرع من التراب.
قال لي أحدهم، ذات مرّةٍ، مقاطعًا حديثًا مطولًا لي معه عن التمييز والعنصرية وخطاب الكراهية – قال لي متهكمًا إن أوروبا نفسها تكاد تسبح في بحر من البغض والكراهية، وأنه لولا القوانين الرادعة لحدث ما لا يُحمد عقباه. كل ذلك جميل، ولكن السؤال: ما الذي يمنعنا –نحن السودانيين– من الوصول إلى هذه النقطة؟ أعني إلى مرحلة أن تردعنا القوانين على الأقل؟ إلى مرحلة أن نكتشف وحدنا حقيقة أنّ دفن رؤوسنا في التراب سيعفينا من أن نسمع أو نعرف؟ هل كنّا نعتقد أن تلك الصورة النمطية "اليوتوبية" عن شعب السودان ستبقى إلى الأبد؟ ثم ماذا حدث بعد أن كشفنا حبكة المستعمر وأدركنا معنى "فرِّق تَسُد" الذي تلقيناه في المدارس مع "منقو قل لا عاش من يفصلنا"؟
يمكن لخطاب الكراهية والذي يُعرّف بأنه "أي تواصل يحطّ من قدر شخص أو مجموعة على أساس سماتٍ مثل العِرق أو الدين أو غيره"، أن يحرض على العنف ويزيد من الانقسامات المجتمعية. ولا يخفى على أحد أنّ خطاب الكراهية سُمٌّ فتّاكٌ ومدمِّر، إذ لا يحتاج الأمر إلى اطلاع واسع على كتب التاريخ ليعرف المرء فعالية هذا السُّم، بل يحتاج فقط إلى فطرة سليمة.
لطالما عانى السودان تاريخيًا من سموم خطاب الكراهية، وهي سموم تسرّبت بدرجة قاتلة إلى أوردة البلاد، ليصبح كل ما نعده مصدر قوة، من تاريخ وتنوع ثقافي وإثني وجغرافي وغيره مما يتميز به السودان، قنبلةً جاهزةً للانفجار في أيّ لحظة إن أسيء استخدامه – ولو بحسن نية. هذه السموم الفتّاكة جميعها أدت إلى انقسام السودان في الماضي، وتضع مبضعها على عنق البلاد اليوم مهدِّدةً بانقسامات متتالية إن لم تعالَج القضية؛ أولًا بالانتباه إليها، والأهم من ذلك التخلّي عن عباءة "الإنكار" التي نتدثّر بها في صيفٍ قائظ.
وكما نعرف جميعًا، فقد اتسم تاريخ السودان بصراعات طويلة، بدءًا من الحكم الاستعماري والنزاعات الداخلية وصراعات المجموعات العرقية من أجل الاعتراف والحقوق. وكانت تلك الصراعات تتغذى –بطبيعة الحال– على التوترات العرقية والدينية؛ إذ تركت الحرب الأهلية التي استمرت عقودًا عديدةً بين الشمال والجنوب قبل انفصاله/استقلاله، والتي أججت نيرانَها سياساتُ "التعريب والأسلمة"، وتركت ندوبًا عميقة على جسد الوطن. كما استغلت عقود الحكم الاستبدادي الطويل في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير هذه الانقسامات لتحقيق مكاسب سياسية؛ فقد استخدم نظام البشير خطاب الكراهية سلاحًا ضد خصومه، وحقَنَ السمّ في أوردة الأقليات العرقية والدينية، لا سيما في دارفور؛ إذ يُعد النزاع في إقليم دارفور مثالًا صارخًا على كيفية تحوّل تلك التوترات إلى عنفٍ شامل يغذيه الخطاب التحريضي.
وتخلق آثار مثل هذه النزاعات بيئةً جاذبةً لتضخم خطابات الكراهية وتوسع نطاقها، ودائمًا ما يُستخدم خطاب الكراهية ضمن أدوات تعبئة المجتمعات. وفي السودان على وجه الخصوص، ترك تاريخ البلاد الطافح بالصراعات والنزاعات والسياسات غير الأخلاقية إرثًا ثقيلًا في مجتمعٍ يغلي بالتحيّزات، ويسهل تأجيج نيرانه بأبسط خطابٍ تحريضي.
ومع ما شهدناه على أرض اعتصام القياد العامة للجيش في الخرطوم في العام 2019 من "سودان مصغّر"، كان يبدو للرائي والسامع وكأنه الوطن الحلم، الوطن الذي لم يُرسم ولم يُدرج في مناهجنا التعليمية التي سمحت بأن يعيش مَن يفصلنا من "منقو"؛ وكما كانت الشوارع، إبان ثورة ديسمبر 2018، مدرسةً للتسامح والمحبة والاحترام، وكانت "كل البلد دارفور"، وكان حلم الجميع "الحرية والسلام والعدالة" – ولكن على جمال الحلم وعدم استحالته، لم تسعفنا الفترة الانتقالية اللامعة ولا مناخها الجاذب، للعمل –بطريقة مؤسسية وإستراتيجية– على الحد من خطاب الكراهية أو حتى الوصول إلى النسخة الأوروبية التي أشار إليها صديقي المتهكم وهو يقاطع حديثي –الذي لم يكن حالمًا– والتي تردع فيها القوانين أي محاولة لنشر خطاب الكراهية الفتّاك. وزاد الأمرَ ضغثًا على إبالة، عدم تواني الجنرال البرهان عن جرّنا معه إلى متاهته بانقلاب 25 أكتوبر 2021، لنتخبّط جميعًا داخل المتاهة، يحمل كلٌّ منّا فتيلًا جاهزًا للاشتعال. وباندلاع حرب 15 أبريل 2023 انفجرت على الفور التوترات العرقية، ووجدت التيارات المحرِّضة على العنف بيئةً خصبةً لنشر خطابات الكراهية في وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء العام؛ وهنا تكمن خطورة خطاب الكراهية، في خلق مناخ يُنظر فيه إلى العنف على أنه رد فعل مشروع.
والحرب على ويلاتها، قد تكون –صدّق أو لا تصدّق– فرصةً نادرةً لمواجهة هذه التحديات مباشرةً ومكافحة هذه السموم التي تملأ جسد الوطن، والانتهاء منها مرةً واحدةً وإلى الأبد. هذه فرصتنا للعمل جميعًا من أجل مستقبل –أيًا يكن وقته، إذ لا مجال للتشاؤم هنا– أكثر شمولًا وسلامًا ومحبة؛ وذلك من خلال تعزيز الخطاب المضاد لخطاب الكراهية، والانخراط في حوار بنّاء، ومعالجة الأسباب الجذرية لخطاب الكراهية وتعزيز الحوار؛ فذلك وحده يمكن أن يُمهِّد الطريق نحو بيئة صحية ومعافاة، يزدهر فيها التنوع العِرقي والديني والثقافي في السودان، ويصبح مصدر قوةٍ عوضًا عن كونه فتيلًا قابلًا للاشتعال.
إن القضاء على خطاب الكراهية في السودان لا يمكن أن ينجح فقط بـ"إنفاذ القانون" كما يظنّ صديقي، بل يتطلب –في حالتنا هذه– نهجًا متعدد الأبعاد، تشترك فيه المجتمعات المحلية مع المجتمع المدني ويساهم فيه المجتمع الدولي. وفي حين أننا ما زلنا نكافح حتى اللحظة العواقبَ المدمّرة للحرب، فإن من الضروري تعزيز ثقافة التسامح والتفاهم لإعادة بناء الدولة وإخماد نيران العنف والكراهية.
إن رحلة السودان نحو مستقبل أكثر عدالةً وسلامًا ستكون طويلةً وشاقةً ما في ذلك شك، لكن ومع ذلك سنتمكّن –نحن السودانيين– من بناء ذلك المجتمع الذي يحتفي بالتنوع ولا يستخدمه سلاحا.
لا توجد تعليقات