إن الدول تُدمَّر من الداخل عبر مختلف الآفات، بما فيها خطاب الكراهية والتفرقة العنصرية. وفي عصر الإنترنت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت المعلومات تنتقل بسرعة فائقة، ولكن لهذا الانتشار السريع وجهٌ مظلم، هو انتشار المعلومات المضللة التي تُستخدم، في كثير من الأحيان، في تعزيز خطابات الكراهية. ولا يقتصر تأثير هذه الظواهر على اللحظة الحاضرة، بل يمتد ليشكل نسيج المجتمع، على نحوٍ عميقٍ ومستدام، حتى بعد انتهاء النزاعات والحروب. أحاول في هذا المقال استعراض أثر خطاب الكراهية والمعلومات المضللة، بوصفهما موضوعين شكلا جزءًا كبيرًا من الأزمة الحالية والأزمات التي مرت على السودان في تاريخه الحديث، وكانت لهما تأثيرات ممتدة إلى النواحي السياسية والاقتصادية والنفسية. يناقش المقال أيضًا كيف تستمر هذه التأثيرات ولا تنتهي بنهاية الأزمات والحروب، إذ أدت هذه الممارسات إلى انفصال جنوب السودان، وها هي الآن تمضي بخطًى حثيثة نحو انفصال غرب السودان، مما يعني حتمية انهيار الدولة.
لخطاب الكراهية والمعلومات المضللة آثار سياسية، من أهمها أنهما يقوضان أسس الديمقراطية؛ إذ تعمل المعلومات المضللة على تشتيت انتباه الرأي العام عن القضايا الحقيقية، مما يؤدي إلى انتخاب قادة غير مؤهلين أو متحيزين. وفي الديمقراطيات الهشة، نرى تأثير خطاب الكراهية والمعلومات المضللة التي تقود مثلًا إلى تآكل الثقة في العمليات الانتخابية، ويمتد إلى فقدان الثقة في الحكومات نفسها؛ فعندما يشعر المواطنون بأنهم مغيبون أو مخدوعون، يمكن أن يتزايد الإحباط والغضب، مما يهدد استقرار النظام السياسي برمته.
ويؤدي خطاب الكراهية والتفرقة العنصرية إلى تعزيز الاستقطاب السياسي الذي يساهم بدوره في زيادة الانقسام السياسي داخل المجتمعات. ويصبح الحوار السياسي محملًا بالعواطف والعداوات بدلًا من النقاشات العقلانية والبنّاءة. ويؤدي هذا الاستقطاب إلى تصعيد النزاعات الداخلية وصعوبة التوصل إلى حلول وسطية، مما يعرقل التقدم السياسي ويجعل الحكومات أقل استجابةً لمطالب المواطنين. ويخلق هذا الوضع بيئة غير مستقرة، إذ تتعمق الفجوات بين مختلف الجماعات الدينية والسياسية والاجتماعية.
ويعتمد خطاب الكراهية اعتمادًا جوهريًا على تشجيع العنف. وفي المجمل يمكن القول إن خطاب الكراهية قد يؤدي إلى تطرف الأفراد وتشجيعهم على ارتكاب أعمال عنف ضد الجماعات المستهدفة؛ فعندما تصوَّر جماعة معينة على أنها "عدو"، يصبح من السهل تبرير العنف ضدها، دون الرجوع إلى حيثيات المشكلة، ويمكن أن يؤدي الأمر إلى دوامة من العنف والانتقام، إذ تتفاقم التوترات وتتحول الخلافات إلى صراعات مفتوحة. وفي سياق ما بعد النزاعات، يمكن أن تؤدي هذه الديناميات إلى استمرار العنف وصعوبة تحقيق السلام وجر المجتمعات إلى أزمات تمتد عقودًا. ومن المحتمل أيضًا أن يخرج دعاة انفصال من الفئات التي يُمارس عليها الاضطهاد والعزل الاجتماعي الناتج عن خطاب الكراهية، وهو نتيجة حتمية للتهميش. ومن أبرز الأمثلة على ذلك: التطهير العرقي الذي استهدف المسلمين في بورما.
ومن جانب آخر، تؤدي التأثيرات الاقتصادية إلى تآكل الثقة في المؤسسات الاقتصادية؛ فعندما تنتشر شائعات عن الأوضاع الاقتصادية أو سياسات معينة، يمكن أن يؤدي ذلك إلى اضطرابات في الأسواق المالية وانخفاض في الاستثمارات، ويمكن أن يعاني الاقتصاد من تقلبات حادة نتيجة لهذه المعلومات المضللة، مما يضر بالاستقرار الاقتصادي ويؤثر سلبًا في التنمية. فيما تتضرر الأعمال التجارية وتتعرض الشركات لخسائر كبيرة جراء حملات التشويه المتعمدة أو الأخبار الزائفة. ويمكن أن تؤدي هذه الحملات إلى انخفاض المبيعات وتضرر سمعة الشركات، مما يؤدي في النهاية إلى خسائر مالية كبيرة. الشركات الصغيرة والمتوسطة قد تكون الأكثر تضررًا، إذ تفتقر إلى الموارد اللازمة للتصدي لمثل هذه الهجمات، واستعادة سمعتها. كما تقود النزاعات المستندة إلى خطاب الكراهية والتهميش إلى تدمير البنية التحتية وإعاقة النشاط الاقتصادي، مما يؤدي إلى زيادة معدلات البطالة والفقر، إذ يجد الأفراد صعوبة في العثور على وظائف وتحقيق دخل مستقر. وخلال النزاعات وما بعدها، يمكن أن تكون عملية التعافي الاقتصادي بطيئة ومعقدة، مما يزيد من التحديات الاجتماعية والاقتصادية.
ليس ذلك فحسب، فعلى الصعيد النفسي يساعد خطاب الكراهية والتفرقة العنصرية على انتشار القلق والاكتئاب لدى الأفراد، لا سيما أولئك الذين ينتمون إلى الجماعات المستهدفة، ويمكن أن يشعروا بالعزلة والخوف من التمييز أو العنف، مما يؤثر سلبًا في صحتهم النفسية. الأفراد المعرضون باستمرار لهذه الضغوط النفسية قد يعانون من تدهور في جودة حياتهم وصحتهم النفسية والعقلية، كما يمكن أن يفقد الناس الثقة في بعضهم بعضًا وفي وسائل الإعلام والمؤسسات، مما يؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية وزيادة العزلة الاجتماعية. ومن دون الثقة المتبادلة، يصبح التعاون بين الأفراد والجماعات أكثر صعوبة، مما يعوق الجهود الرامية إلى بناء مجتمعات متماسكة ومستدامة.
ولخطاب الكراهية تأثيرات طويلة الأمد تمتد حتى بعد نهاية النزاعات. وقد يعاني الأفراد من اضطرابات نفسية وعزلة اجتماعية قد تمتد آثارها إلى التعليم والصحة، مما يؤدي إلى خلق مجتمعات معزولة يصعُب على أفرادها التعافي وإعادة بناء حياتهم. وقد يتطلب التعافي النفسي والاجتماعي أجيالًا كاملة، إذ تنتقل المعاناة من جيل إلى آخر.
وكما ذكرنا سابقًا، تتجذر هذه التأثيرات وتنتشر لتخلّف آثارًا مستدامة تمتد إلى ما بعد الأزمات والحروب، أبرزها إعادة بناء الثقة بعد انتهاء النزاعات؛ إذ يواجه المجتمع تحدي إعادة بناء الثقة بين مختلف الجماعات. ويتطلب الأمر جهودًا كبيرةً من الحكومة والمجتمع المدني والمؤسسات الدينية والثقافية، لتعزيز التسامح والتعايش السلمي. ومع أن إعادة بناء الثقة قد تكون عملية طويلة ومعقدة، لكنها ضرورية لتحقيق الاستقرار والسلام الدائمين.
ولمعالجة الأضرار النفسية يحتاج الناجون من النزاعات إلى دعم نفسي للتغلب على الصدمات التي تعرضوا لها. ويمكن أن تستمر آثار العنف وخطاب الكراهية لمدة طويلة، مما يتطلب برامج دعم نفسي وإعادة تأهيل. ويجب أن تكون هذه البرامج شاملة ومستمرة، مع التركيز على العلاج النفسي وبناء القدرات.
وبالإضافة إلى الإصلاح الاقتصادي –إذ تحتاج الاقتصادات المتضررة من النزاعات إلى مدة طويلة للتعافي– يجب تنفيذ سياسات اقتصادية تهدف إلى إعادة بناء البنية التحتية وتعزيز الاستثمار وتوفير فرص العمل؛ إذ يتطلب التحول الاقتصادي إستراتيجيات مستدامة تركز على تنمية رأس المال البشري وتعزيز القطاعات الاقتصادية والتعليمية.
ومن جهة أخرى، يجب أن يضطلع الإعلام بدور مهم في التصدي لخطاب الكراهية والتهميش، بعد النزاعات. ويجب أن تكون وسائل الإعلام مسؤولة عن تقديم معلومات دقيقة ونزيهة، وتعزيز الحوار البنّاء بين مختلف مكونات المجتمع. ويمكن للإعلام أن يساهم في بناء الوعي وتعزيز التسامح، مما يساعد على تخفيف التوترات وإعادة بناء الثقة وتعزيز العدالة الانتقالية التي تعد أداة مهمة لتحقيق المصالحة وبناء السلام. وتهدف العدالة الانتقالية إلى معالجة الانتهاكات التي وقعت خلال النزاع وتقديم الدعم للضحايا. ويمكن أن تشمل هذه الجهود: المحاكمات، والتعويضات، ولجان الحقيقة والمصالحة. وتساعد العدالة الانتقالية على محو آثار الماضي المظلم، وبناء مستقبل مشترك قائم على العدالة والمساواة.
التعليم أداة قوية لمواجهة خطاب الكراهية، إذ يمكن للبرامج التعليمية والتوعوية أن تساهم في نشر قيم التسامح واحترام الآخرين. ويجب أن تركز هذه البرامج على تعليم الأفراد كيفية التحقق من المعلومات وتجنب الانجراف وراء الشائعات والأخبار الزائفة. فالتعليم يعزز التفكير النقدي ويشجع على الحوار البنّاء، مما يساهم في بناء مجتمع أكثر وعيًا واستقرارًا، وهو ما يقودنا إلى المجتمعات الشاملة التي تحتضن التنوع وتقدّر اختلافات الأفراد والجماعات. إن مثل هذه المجتمعات تعد ركيزة أساسية للتصدي لخطاب الكراهية، لكن يتطلب بناؤها جهودًا متكاملةً لتعزيز قيم العدالة والمساواة والاحترام المتبادل. ويتعين على الحكومات والمجتمع المدني والمؤسسات التعليمية والدينية العمل معًا لخلق بيئة تحترم حقوق الإنسان وتتيح للجميع الفرصة للمساهمة بفعالية في المجتمع، عن طريق تفعيل دور الشبان؛ وليضطلعوا بدور محوري في مكافحة خطاب الكراهية والتهميش، يجب تمكينهم من خلال التعليم والتوعية والمشاركة في عملية صنع القرار. ويمكن للشبان أن يكونوا سفراء للتغيير الإيجابي، من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بمسؤولية، ونشر قيم التسامح والسلام. ويمكن أن يساهم تفعيل دور الشبان في تحقيق تحولات إيجابية ومستدامة داخل المجتمعات.
كما يجب الاستفادة من التكنولوجيا ضمن وسائل التصدي الفعال لخطاب الكراهية والمعلومات المضللة. ويمكن تطوير أدوات تحليل البيانات للكشف عن المعلومات المضللة وتتبع انتشارها، وكذلك إنشاء منصات تدعم نشر المعلومات الدقيقة والموثوقة. ويمكن أن يساهم التعاون بين الحكومات والشركات التكنولوجية ومنظمات المجتمع المدني في تطوير حلول مبتكرة تعزز الشفافية وتحد من تأثير المعلومات الزائفة والمضللة.
لا توجد تعليقات