Successful Transaction
Invalid Transaction

مذهب المحبة: السلام بيت المحبة وحديثه خطابها

سارة حمزة الجاك عبدالله | 2024-06-24

من الوهلة الأولى، يظهر السلام فتتبعه المحبة، أو هكذا تبدو الصورة؛ التناسب بينهما طردي، من المؤكد أن التناسب طردي، ولكن ببعض الرويّة، ومع إمعان النظر، تتجلى علاقةٌ أعمق، تكون فيها المحبة هي الأصل، والسلام فرعها؛ لنرى معًا جذر المحبة وأصل نباته الطيب، مما يساعدنا على الكشف عن جذر اللامحبة وأصلها اللاطيب.

المحبة شعورٌ يتولد من تفاعل عدة عوامل من مصدر واحد، أهمها معرفة الذات التي تتنامى لتكون الثقة بالذات. وتعزز الثقةُ بالذات الرغبة في التعريف بها والخروج بها من الدائرة الذاتية (بيت التفكير والشعور) إلى دائرة الإفصاح عنها باللغة أو الكلام (بيت التعبير والظهور). وقد يتطور الأمر –لمن عرف ذاته– فيعبّر عنها بوسائل أخرى مثل الفنون. الذات الواثقة التي تسبح في فلكها المصنوع من أدواتها، تدعو الذوات الأخرى إلى التعبير عن نفسها أيضًا، ليتسع فلك التعبير، فيصبح ناديًا للخطابة والحوار؛ يختبر معارف الذات الواثقة وقدراتها، يطورها وينميها، فترتقي وتتسامى كل الذوات الواثقة؛ فنصف رأيك عند أخيك، والحكمة ضالة طالبها. والارتقاء والتسامي يبعث أريج السلام في النفس، يعطرها ويزكيها، فتفيض معرفةً وعلمًا ورخاءً. تتراص الذوات المحبة، تتّحد فتتكون بحيرةٌ من السلام، عطِرة وزكية وفياضة بالمعرفة والعلم والرخاء والازدهار والحضور والتأثير.

المحبة بذرةٌ تنمو في أرض الرضا، والمعرفة بالذات بيتها، والوثوق في الذات سقفها، والقبول بها بابها، والتصالح معها مفتاحها. وفلاحة أرض الرضا وبساتينها، والعناية ببيت المعرفة بالذات والوثوق فيها تهذيبًا وتشذيبًا، وصيانة باب القبول والعمل على انسياب حركته، والاهتمام بالتصالح معها وعدم إهمال مفتاحها، والعناية بمكوناتها مكونًا مكونا – يرتقي إلى أن يكون مذهبًا كُلِيًا للعناية بالمحبة، لنسميه مذهب المحبة.

المحبة شجرةٌ تنمو وتمتد فروعها إلى عنان السماء إن لم يعترضها معترض أو تتلفها آفة؛ يعترض نموها عدم معرفتها بأرض تربتها، بمكوناتها وتاريخها وامتيازاتها، وعدم معرفتها بصورها المتعددة في ذواتٍ أخرى تسكن معها في امتدادات أرضها؛ هنا تحديدًا يمكن للذوات غير المحِبة بزر اللايقين في الذات، مما يزعزع جذور المحبة ويخلخلها، ويرجرج جزيئات تربة أرض الرضا، ويهز جدران بيت المعرفة بالذات، ويرمي سقف الثقة بالذات على ما يحتويه البيت، فتخرج المحبة من هذا الركام تائهةً بلا هادٍ أو دليل؛ فقد انهار باب القبول ولا سبب يدفعها إلى استعمال مفتاح التصالح.

تتشرد المحبة، وتترك الذات حائرةً متخبطة، وتبتسم الذوات غير المحبة الأخرى ابتسامةً ماكرةً مفادها أننا كسبنا ذاتًا تائهةً أخرى يسهل علينا تحويلها إلى ذات غير محبة، تتبنى خطاب غير المحبين وتتحدث بلغتهم وتمشي في طريقهم الذي يقودهم جميعًا إلى الجحيم المقيم. تبكي عليها الذوات المِحبة، وتحتفل بها الذوات غير المحبة وتتكون دائرة كبيرة منها، ينفثون سمومهم في أوصال مجتمعاتهم، فيسممونها ويسممون فضاءها وأرضها وطرقها وأبوابها وبيوتها ونفوس ساكنيها؛ يصدرون الفوضى والإزعاج والتعدي على الآخرين، مدفوعين باللامحبة واللامعرفة بذواتهم، مما يولد عندهم اللاسلام، وهو محركهم ودافعهم الأول؛ اللاسلام المعنوي الذي يُترجم واقعًا يعيشونه وإن بدا غير ذلك. اللامحب يعاني من رهابٍ مصدره عدم اتصاله ببواعث السلام في حياته التي ارتضاها أو أن من يتصل به ليبعث فيه السلام لا يملكه؛ وهنا يكمن التحدي أمام اللامحبين للناس والحياة الذين يمنحون أنفسهم حق زهق أرواحٍ أخرى فقط ليفرضوا سيطرتهم أو ليجنوا رزقًا وفيرا، ولكنهم مثيرون للشفقة؛ فهم يطلبون ممن لا يملكون ما لا يستحقون، فلا الذوات المحبة تملك السلطة والمال لتهديهم إياه وإن بدا لهم غير ذلك، ولا هم يستحقونها لأنهم طلبوها بالتعدي على حدود غيرهم، طلبوها في غير مصدرها.

خطاب اللامحبين خطابٌ كاذب، لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا جذر له فهو باهتٌ ومهزوزٌ وضعيف، تتأثر به منطقة اللاحب بداخلنا؛ المنطقة التي تعاني من الضعف والاهتزاز، فتتفاعل معه وتتغذى عليه فيرضي غرورها ويهبها قوةً متوهمة، يكبر بداخلنا فنتبناه، ويتمدد مغطيًا منطقة المحبة فينا، يطغى عليها فيعسر يسيرنا الذي كنا لا نشعر به، نتناقله فيصيبنا اليأس والحيرة والتشتت والوحشة، فلا نعرف وجهتنا؛ نمضي به فينطوي بساط صراطنا المستقيم، ونضلّ طريقنا ونظل نردد: أين الطريق؟

لا يمكننا التحكم في جنوح اللامحبين عديمي الوجوه؛ فقد سقطت منهم وهم في طريقهم إلى اللامحبة، فارتدوا أقنعةً غير حقيقية تغطي سوأة قبح ملامحهم؛ مقطوعي الألسن، فقد استبدلوها بلسانٍ واحد ينضح قيحًا وصديدًا، ونسخوه بعدد أفواههم، لسان أطول من ألا يلعق الدم في محفل اللامحب الأول، فهو يتغذى على الدماء، يلعقها، يمتصها ويتلذذ بها؛ لسان أكبر من أن يسكن أو يسكت عن الأذية، فإن سكتوا حرموا من طعامهم الأثيم، وسيتجاوزهم نصيبهم من الزقوم.

لكن بإمكاننا أن نعود إلى طريق المحبين، نتبنى خطابهم، خطابًا يسمن من ضعفٍ وقلة الحيلة، ويغني من الذل والإهانة، يدثرنا من وحشة القرور وصقيعه الذي يسكن أرواحنا قبل عظامنا؛ خطابًا يعيد إلينا كرامتنا أمام أنفسنا قبل الآخرين، يبرؤنا من آلام النفي القسري التي نعاني منها جميعًا داخل حدود أرض محبتنا وخارجها.

خطاب المحبة يعتمد على إحراج اللامحبين بتجاهل استفزازهم، بالنكوص عن خطابهم وتبني خطاب المحبة ورعايته وتهيئة البيئة المناسبة لازدهاره؛ هنا فقط نبدأ العمل على تفعيل الحلول الناجعة الناجزة لسحب سمّ خطاب اللامحبة من عروق المحبين ولفظها خارج الجسد، بدءًا لرحلة الاستشفاء من هذا المرض العضال، كما أنه سيفوت على اللامحبين فرصة نفخ سمومهم في عروقه مرةً أخرى.

قد تقابلنا تحديات الغرور والكبر، والذات المتضخمة الزائفة، والتاريخ الملفق، ويبث اللامحبون الرعب في نفوسنا، ويعِدوننا بجنة سراب إن واصلنا في طريقهم، في طريق يشرذمنا أكثر. أفلا نتعظ من تجربة قطع جزءٍ منا في السابق، لأننا سرنا على ذات الطريق، أوَ نجرب المجرب مرةً أخرى ولا نرعوي؟

خطاب المحبة ينادي أبناءه أن تعالوا إليّ وهلموا إليّ

تعالوا إليّ!  

يأتون، فيعيد إليهم لسانَهم المفقود، لسان المحبة، لسان الفطرة والحياة، ويناديهم قائلًا: ارسموا واكتبوا وتغنوا وارقصوا بكلماتي، امتلئوا بها لتفيض علي إبداعاتكم، تفيض وتغرق محبيكم ومحبي أعمالكم، في بحرٍ من المحبة، أمواجها وبرزخها، ولؤلؤها ومرجانها وكنوزها، وأمنها وسلامها.

الشعور بالمحبة يولد السلام، والسلام مهمة الأمهات والآباء. كل من أهداك سلامًا فهو أحد أبويك، عندما تفكر في خطاب اللامحبة تذكر أبناءك وذويك، فأنت تشعل نارًا تحرقهم؛ وعندما تفكر بخطاب المحبة فإنك تفرش بساطًا أخضرَ من الازدهار والرفاء، لهم ولنا ولك، للصغار القادمين، وتهديهم محبة تلد سلاما.

السلام يبدأ بالسين، وهو صفيرٌ مهموس يخلق ويعبّر عن الأمان والراحة النفسية، فيرتفع اللسان ليضرب في لثة الفك الأعلى برقةٍ تجعل الملامسة حنانًا وألفة، لكن سرعان ما ينفتح الفم ليشمل الخارج ضامًا كل الكون برمزيةٍ عالية، فتأتي الميم ضامةً الشفتين على كونٍ جميل في عناقٍ سلس؛ وهل أعمق من الاحتضان إحساسًا بالمحبة لنا؟ أن ننظر إلى تعبيرنا عن الود والشوق والمحبة، فلا نجد إلا العناق وسيلةً لنقل كل ذلك دون كلام، لذا لم يكن من الممكن إلا أن نقول: سلام، سلام. 

اترك تعليق

التعليقات

لا توجد تعليقات

قصص بحاجة إلى أن تُسمع. اقرأوها وشاركوها على نطاق واسع

  • القصص
  • الرئيسية
  • تواصل معنا

© 2024 Ananas Tech - جميع الحقوق محفوظة